· إذا استثنينا الصقور فإن طائر النورس يحتل مرتبةً عاليةً في الحرية والانطلاق من بين بقية الطيور جميعا .. يجوب المعمورة شرقا وغربا دونما حسيب أو رقيب .. ذلك الطائر الذي يلازم شواطئ البحار .. يصطاد بعين فاحصة .. لا يلبث حتى يهوي في الماء كسهمٍ أبيض.. وما هي إلا ثوانٍ حتى يخرج بطريدة جلبها من الأعماق.
· كنت وأنا صغير مشغوفا بمطاردة الطيور .. حاولت الحصول عليها في الحقول وشقوق الجدران، وتسلقتُ الأشجار للبحث عن أعشاشها ، وطاردتُها ساعات طويلة في الغابات والزروع المحصودة ، ونصبت لها الفِخاخ على الأجران وآثار التبن .. كما رنوت إلى ضوضاء الطيور الهاجعة للمبيت في الأشجار .. أقذفها بملء يدي أحجارا صغيرة لعل أحدَها يصيب .. وندمت على هذا التصرف عندما كَبِِِرت ، وقلما جربت ذلك مع الطيور الكبيرة إلا في أحوال نادرة ..
· عندما عرفتُ النوارس كنت يافعا ، وكان وجداني يشق طريقه في جمع ما يجد من آيات الجمال في الطبيعة .. لم أقدم على صيد النوارس ، ولكني استمتعت بمرآها وطيرانها وأصواتها المميزة .. النوارس أي جمالٍ هي النوارس وأي قوة وأي موقفٍ استعراضي ..النورس سيد البر والبحر ..صحيح أن الببغاء يحتل المرتبة الثانية بعد الطواويس في زهاء اللون غير أنه متهم بالكذب والثرثرة ويقال إنه (بصّاص) .. وطالما أنه ينقل الأخبار كيفما اتفق فلا ينجو من الغيبة والنميمة تجاه الطيور الأخرى. · هناك طائر بنيّ ، أحمر المنقار والرجلين اسمه (الحجل) ، قويّ ، جميلٌ ، وعنيف الطيران غير أنه جبان يخاف من ظله .. لم أره يوما يعتلي شجرة .. يمشي فقط بجنب الغابة حذرا مترقبا .. لا يغادرها إلى السهول الرحبة إلا مضطرا أو مطاردا .. النوارس وحدها تشق طريقها إلى الجزر النائية في أطراف الأرض .. تبني أعشاشها في القمم الشاهقة.
· ثمة طائر قوي ، أغلب الظن أنه أحمق .. على الرغم من قوته ومسالمته للآخرين وخبرته بالأماكن البعيدة وقطعه مئات الكيلومترات من أجل وجبة واحدة إلا إنه أسود بخيل مكّار وقمّام .. يعاديه الناس في الخفاء ويتشاءمون لرؤيته .. يكفي إنه غراب البين .
· أما النوارس ذات الصوت الموحي دائما بعظمة البحر وبعد آفاقه فتزيد الطبيعة روعةً وتضيف إلى جمالها ما تتزين به من نغمة ولون .. النوارس لا أعداء لها .. رافعة الرأس سامقة القامة .. لا تقلق أحداُ .. ولا يتشاءم منها الناس .. أينما أرادت ذهبت .. يكفي النوارس قوةً وعزةً أنها تجوب العالم من دون جوازات سفر أو تأشيرات دخول .. وهل ثمــة شيءٌ أثمن من الحرية ؟
· طائر آخر ظننته شجاعا في بداية الأمر ، أقصد في حداثة سني .. عندما كان يشن هجماته على صيصان الدجاج .. وقد تراه يلاعب جناحيه في الهواء مستقرا فوق نقطة معينة في الجو دون حِراك.. بما يقطع الشك في أنه صياد محنّـك.. تحسبه سينقضٌّ على طائر أو أرنب فإذا به يناور على الخنافس .. ولا يتورع في السطو على أعشاش الطيور وفراخ العصافير.
· الغريب في الأمر أن طائر النورس إذا ابتعد عن مواطنه المفضلة كشواطئ البحار وأعالي الجروف الشاهقة المطلة عليها ـ إذا ابتعد عن هذه الأماكن فإنه يختار السّكْـنى في أبراج السجون .. يطل على السجناء من خلال الشبابيك العالية المضلعة بالحديد .. وكأنه يقول هـاأنــذا أمثّـل الحرية المفقودة أيها السجناء .. أنتم فقدتموها مختارين .. أنتم تهوون التطور حتى نحو الشر أيّها البشر.. أما أنا فمازلت أمثّل البساطة الدعة والأمن على وجه الأرض.. ومع ذلك فنحن أممٌ أمثالكم.