وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴿30﴾ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴿31﴾ (النازعات)
د. زغـلول النجـار
جاءت هذه الآية الكريمة في مطلع الربع الأخير من سورة النازعات, وهي سورة مكية, تعني كغيرها من سور القرآن المكي بقضية العقيدة, ومن أسسها الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه ورسله, واليوم الآخر, وغالبية الناس منشغلين عن الآخرة وأحوالها, والساعة وأهوالها, وعن قضايا البعث, والحساب, والجنة, والنار وهي محور هذه السورة.
وتبدأ السورة الكريمة بقسم من الله( تعالي) بعدد من طوائف ملائكته الكرام, وبالمهام الجسام المكلفين بها, أو بعدد من آياته الكونية المبهرة, علي أن الآخرة حق واقع, وأن البعث والحساب أمر جازم, وربنا( تبارك وتعالي) غني عن القسم لعباده, ولكن الآيات القرآنية تأتي في صيغة القسم لتنبيه الناس إلي خطورة الأمر المقسم به, وأهميته أو حتميته.
ثم تعرض الآيات لشيء من أهوال الآخرة مثل( الراجفة والرادفة) وهما الأرض والسماء وكل منهما يدمر في الآخرة, أو النفختان الأولي التي تميت كل حي, والثانية التي تحيي كل ميت بإذن الله, وتنتقل الآيات إلي وصف حال الكفار, والمشركين, والملاحدة, المتشككين, العاصين لأوامر رب العالمين في ذلك اليوم الرهيب, وقلوبهم خائفة وجلة, وأبصارهم خاشعة ذليلة, بعد أن كانوا ينكرون البعث في الدنيا, ويتساءلون عنه استبعادا له, واستهزاء به: هل في الإمكان ان نبعث من جديد بعد أن تبلي الأجساد, وتنخر العظام؟ وترد الآيات عليهم حاسمة قاطعة بقرار الله الخالق أن الأمر بالبعث صيحة واحدة فإذا بكافة الخلائق قيام يبعثون من قبورهم ليواجهوا الحساب, أو كأنهم حين يبعثون يظنون أنهم عائدون للدنيا مرة ثانية فيفاجأون بالآخرة...
وبعد ذلك تلمح الآيات إلي قصة موسي( عليه السلام) مع فرعون وملئه, من قبيل مواساة رسولنا( صلي الله عليه وسلم) في الشدائد التي كان يلقاها من الكفار, وتحذيرهم مما حل بفرعون وبالمكذبين من قومه من عذاب, وجعل ذلك عبرة لكل عاقل يخشي الله( تعالي) ويخاف حسابه.
ثم تتوجه الآيات بالخطاب إلي منكري البعث من كفار قريش وإلي الناس عامة بسؤال تقريعي توبيخي: هل خلق الناس ـ علي ضآلة أحجامهم, ومحدودية قدراتهم, وأعمارهم, وأماكنهم من الكون ـ أشد من خلق السماء وبنائها, ورفعها بلا عمد مرئية إلي هذا العلو الشاهق ـ مع ضخامة أبعادها, وتعدد أجرامها, ودقة المسافات بينها, وإحكام حركاتها, وتعاظم القوي الممسكة بها؟ ـ وإظلام ليلها, وإنارة نهارها؟ وأشد من دحو الأرض, وإخراج مائها ومرعاها منها بعد ذلك, وإرساء الجبال عليها, وإرساء الأرض بها, تحقيقا لسلامتهم وأمنهم علي سطح الأرض, ولسلامة أنعامهم ومواشيهم.
وبعد الإشارة إلي بديع صنع الله في خلق السماوات والأرض كدليل قاطع علي إمكانية البعث عاودت الآيات الحديث عن القيامة وسمتها( بالطامة الكبري) لأنها داهية عظمي تعم بأهوالها كل شيء, وتغطي علي كل مصيبة مهما عظمت, وفي ذلك اليوم يتذكر الإنسان أعماله من الخير والشر, ويراه مدونا في صحيفة أعماله, وبرزت جهنم للناظرين, فرآها كل إنسان عيانا بيانا, وحينئذ ينقسم الناس إلي شقي وسعيد, فالشقي هو الذي جاوز الحد في الكفر والعصيان, وفضل الدنيا علي الآخرة, وهذا مأواه جهنم وبئس المصير, والسعيد هو الذي نهي نفسه عن اتباع هواها انطلاقا من مخافة مقامه بين يدي ربه يوم الحساب, وهذا مأواه ومصيره إلي جنات النعيم بإذن الله.
وتختتم السورة بخطاب إلي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) متعلق بسؤال كفار قريش له عن الساعة متي قيامها؟, وترد الآيات بأن علمها عندالله الذي استأثر به, دون كافة خلقه, فمردها ومرجعها إلي الله وحده, وأما دورك أيها النبي الخاتم والرسول الخاتم فهو إنذار من يخشاها, وهؤلاء الكفار والمشركون يوم يشاهدون قيامها فإن هول المفاجأة سوف يمحو من الذاكرة معيشتهم علي الأرض, فيرونها كأنها كانت ساعة من ليل أو نهار, بمقدار عشية أو ضحاها, احتقارا للحياة الدنيا, واستهانة بشأنها أمام الآخرة, ويأتي ختام السورة متوافقا مع مطلعها الذي أقسم فيه ربنا( تبارك وتعالي) علي حقيقة البعث وحتميته, وأهواله وخطورته, لزيادة التأكيد علي أنه أخطر حقائق الكون وأهم أحداثه, لكي يتم تناسق البدء مع الختام, وهذا من صفات العديد من سور القرآن الكريم.
وهنا يبرز التساؤل عن معني دحو الأرض, وعلاقته بإخراج مائها ومرعاها, ووضعه في مقابلة مع بناء السماء ورفعها ـ علي عظم هذا البناء وذلك الرفع كصورة واقعة لطلاقة القدرة المبدعة في الخلق, وقبل التعرض لذلك لابد من استعراض الدلالة اللغوية للفظة الدحو الواردة في الآية الكريمة:
الدلالة اللغوية لدحو الأرض
(الدحو) في اللغة العربية هو المد والبسط والإلقاء, يقال
دحا) الشيء( يدحوه)( دحوا) أي بسطه ومده, أو ألقاه ودحرجه, ويقال
دحا) المطر الحصي عن وجه الأرض أي دحرجه وجرفه, ويقال: مر الفرس( يدحو)( دحوا) إذا جر يده علي وجه الأرض فيدحو ترابها و(مدحي) النعامة هو موضع بيضها, و(أدحيها) موضعها الذي تفرخ فيه.
شروح المفسرين للآية الكريمة:
في شرح الآية الكريمة
والأرض بعد ذلك دحاها) ذكر ابن كثير( يرحمه الله) مانصه: فسره بقوله تعالي(أخرج منها ماءها ومرعاها), وقد تقدم في سورة فصلت أن الأرض خلقت قبل خلق السماء, ولكن إنما دحيت بعد خلق السماء بمعني أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلي الفعل, عن ابن عباس(دحاها) ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعي, وشقق فيها الأنهار, وجعل فيها الجبال والرمال, والسبل والآكام, فذلك قوله
والأرض بعد ذلك دحاها)....
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( رحمهما الله)
والأرض بعد ذلك دحاها) أي بسطها ومهدها لتكون صالحة للحياة, وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو.(أخرج) حال بإضمار قد أي: دحاها مخرجا( منها ماءها ومرعاها) بتفجير عيونها, و(مرعاها) ماترعاه النعم من الشجر والعشب, ومايأكله الناس من الأقوات والثمار, وإطلاق المرعي عليه استعارة.
وذكر صاحب الظلال(يرحمه الله): ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها, بحيث تصبح صالحة للسير عليها, وتكوين تربة تصلح للإنبات,..., والله أخرج من الأرض ماءها سواء مايتفجر من الينابيع, أو ماينزل من السماء فهو أصلا من مائها الذي تبخر ثم نزل في صورة مطر; وأخرج من الأرض مرعاها, وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام, وتعيش عليه الأحياء مباشرة أو بالواسطة..
وجاء في( صفوة البيان لمعاني القرآن):' ودحا الأرض ـ بمعني بسطها ـ وأوسعها, بعد ذكر ذلك الذي ذكره من بناء السماء, ورفع سمكها, وتسويتها, وإغطاش ليلها, وإظهار نهارها, وقد بين الله الدحو بقوله
أخرج منها ماءها) بتفجير العيون, وإجراء الأنهار والبحار العظام.( ومرعاها) أي جميع مايقتات به الناس والدواب بقرينة قوله بعد
متاعا لكم ولأنعامكم)........ وأخبرنا بعد ذلك بأنه هو الذي بسط الأرض, ومهدها لسكني أهلها ومعيشتهم فيها: وقدم الخبر الأول لأنه أدل علي القدرة الباهرة لعظم السماء, وانطوائها علي الأعاجيب التي تحار فيها العقول. فبعدية الدحو إنما هي في الذكر لا في الإيجاد, وبجعل المشار إليه هو ذكر المذكورات من البناء وما عطف عليها لا أنفسها, لايكون في الآية دليل علي تأخر الدحو عن خلق السماوات وما فيها.....'.
وجاء في(صفوة التفاسير)
والأرض بعد ذلك دحاها) أي والأرض بعد خلق السماء بسطها ومهدها لسكني أهلها(أخرج منها ماءها ومرعاها) أي أخرج من الأرض عيون الماء المتفجرة, وأجري فيها الأنهار, وأنبت فيها الكلأ والمرعي مما يأكله الناس والأنعام'.
وجاء في(المنتخب في تفسير القرآن الكريم):' والأرض بعد ذلك بسطها ومهدها لسكني أهلها, وأخرج منها ماءها بتفجير عيونها, وإجراء أنهارها, وإنبات نباتها ليقتات به الناس والدواب..