من الآثار الإيمانية والتربوية للمسجد
1- التعارف والأخوة الإسلامية :
إن التعارف قاعدة من قواعد الآداب الإسلامية، بل هو ضرورة من ضرورات التعامل بين الناس، فالجار يحتاج إلى جاره، ولا يمكن أن يتعامل معه إلا إذا تعارفا، وكل واحد من الناس قد يحتاج إلى غيره، فكيف يتعامل معه بدون تعارف بينهما ؟
قال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ .
والمسجد كفيل بإيجاد تعارف أخوي إيماني لا ينسى، ذلك أن المصلين في الحي الواحد لا يلتقون في المسجد غالبًا إلا لأداء صلاة الفريضة، أما إذا كانت تربطهم حلقات الدرس في المسجد فإن لقاءهم يكون أكثر، وكذلك صلاة العيدين والجمعة وغيرها . إن أهل الحي الواحد بعد فترة قصيرة يصبحون كلهم متعارفين بسبب تكرار رؤية بعضهم بعضًا ومصافحة بعضهم بعضًا، ولقائهم في حلقات الدروس عند العلماء، وهكذا .
ولكن التعارف بين المسلمين، ليس هو مجرد معرفة اسم الشخص واسم أبيه ولقبه ووظيفته فقط، وإنما المقصود منه هو أهم من ذلك، وهو تقوية أواصر الأخوة الإيمانية التي يترتب عليها العمل بكل ما يقويها من المحبة، والتزاور والتواصل وعيادة المريض، وإجابة الدعوة، وإعانة المحتاج والضعيف وإفشاء السلام، وطلاقة الوجه وطيب الكلمة، والتواضع وقبول الحق، والعفو والسماحة ودفع السيئة بالتي هي أحسن، والإيثار وحسن الظن، ونصر المظلوم، وستر المسلم إذا وجدت منه هفوة، وتعليم الجاهل، والإحسان إلى الجار، وإكرام الضيف، وأداء الحقوق إلى أهلها، والنصح لكل مسلم وهذا كله منطلقه بيت الله .
وكذلك تجنب كل ما يضعف الأخوة الإيمانية من ظلم وحسد، واحتقار وسخرية، وغيبة ونميمة، وهجر وقطيعة، وفعل ما يثير الشك والقلق عند أخيه المسلم، ومنافسة على بعض أمور الدنيا التي قد شرع فيها، كالبيع على البيع، والخطبة على الخطبة، والغش والكذب .
وقد كانت هذه المعاني العظيمة من الأخوة الإيمانية وتعاطي ما يقويها، وتجنب ما يضعفها موجودة في أعلى صورها عندما كان المسجد موجودا في أعلى صورة له، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين، وقد ربط الرسول صلى الله عليه وسلم أول أخوة، وهي أخوة المهاجرين والأنصار الذين أظلهم مسجده الشريف، وربطت أخوتهم الشهادتان، ووحدتهم راية الجهاد في سبيل الله حتى لقد عزم أخ من الأنصار أن يتنازل لأخيه من المهاجرين عن شطر ماله، وإحدى زوجتيه يطلقها، فتعتد فيتزوجها المهاجر، فما كان من المهاجر، إلا أن قال للأنصاري : بارك الله لك في أهلك ومالك رواه البخاري .
وهكذا كان أهل المسجد، فأين تعارف المسلمين اليوم ؟ إن الجار بجانب جاره، أو أمامه، يخرجان في وقت واحد لأعمالهما، ويدخلان في وقت واحد إلى منزلهما، وقد يجمعهما مصعد واحد نازلين وطالعين، وقد لا يسلم أحدهما على الآخر، وقد يسلم فلا يرد الآخر، وقد يرد وهو مدبر لا يرى أخاه ابتسامته، وقد يموت أحدهما ويدفن وهو لا يدري عنه، وقد يكونان في مؤسسة واحدة في العمل ولا يعرف أحدهما الآخر، فأين تعارف المسجد يا أمة الإسلام؟!
2- التفقه في الدين والقضاء بين المتخاصمين
كان رسول الله صلى عليه وسلم يجلس في المسجد ويسأله أصحابه، ويجيبهم وفتاواه صلى الله عليه وسلم وقضاؤه في المسجد معلومة مشهورة . روى البخاري في صحيحه معلقًا : (باب من قضى ولاعن في المسجد) ثم قال : ( ولاعن عمر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم ) ؛ وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد، وقضى مروان على زيد بن ثابت باليمين عند المنبر، وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجًا من المسجد، ثم قال : باب من حكم في المسجد، وساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال : أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه، فقال : يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، فلما شهد على نفسه أربعًا، قال : أبك جنون؟ قال : لا . قال : اذهبوا فارجموه .
وكان الصحابة رضي الله عنهم بعده، ومنهم الخلفاء الراشدون، يفتون ويقضون في المساجد وبهذا كان المسجد دارًا للفتوى ومحكمة للقضاء .
وكذلك كان مكانًا للصلح بين المتخاصمين، روى كعب بن مالك رضي الله عنه، أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بيته، فخرج إليهما، حتى كشف سجف حجرته فنادى : يا كعب قال : لبيك يا رسول الله، قال : ضع من دينك هذا وأومأ إليه، أي الشطر، قال : لقد فعلت يا رسول الله . قال : قم فاقضه .
3- القضاء على الفواحش وانحسارها بين مجتمع المسلمين
عندما يكون للمسجد مكانته في المجتمع الإسلامي، لا يتخلف المسلمون عن حضور صلاة الجماعة، وبذا يتمكن الإيمان من قلوبهم فيحبون الإيمان ويحبون الله ورسوله، والعمل الصالح، ويكرهون الكفر والفسوق والعصيان، وتنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر والبغي فلا يأتون إلا ما أراده الله منهم شرعا، وكل من أراد منهم غير ما أراد الله، أو أراد أن يغشى غير ما أراد الله أوقفوه عند حده وأطروه على الحق أطرًا .
قال تعالى : اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ومن صفات المؤمنين إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ .
ومن صفات المؤمنين المصلين أنهم لا يحبون أن تشيع الفاحشة ويعم المنكر، قال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ .
قال القرطبي- رحمه الله- قوله تعالى : إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ .
يريد أن الصلوات الخمس هي تكفر ما بينها من الذنوب، كما قال عليه الصلاة والسلام : أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل بقى من درنه شيئًا قالوا : لا يبقى من درنه شيء، قال : فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا .
ثم أخبر بأن الصلاة تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر، وذلك لما فيها من تلاوة القران المشتمل على الموعظة، والصلاة تشغل كل بدن المصلي، فإذا دخل المصلي في محرابه وخشع وأخبت لربه، وذكر أنه واقف بين يديه، وأنه مطلع عليه ويراه، صلحت لذلك نفسه وتذللت، وخامرها ارتقاب الله تعالى وظهرت على جوارحه هيبتها، ولم يكد يفتر عن ذلك، حتى تظلله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حالة