حملَ القلم و غصن الزيتون لينطقَ كصخرَ فلسطين بكلمات الحق و الثورة ،إذا صمتَ جلّله الوقار وإذا تكلّم سَماهُ وعلاهُ البهاء ان وعدَ وفى بوعده فقد قال يوماً أنا سأتزوج القضية وقد تزوّجها ، لاينطقُ إلا بالطّيب من الكلام وكأنّما فَمهُ روضةٌ ولسانُهُ ريحانةٌ أو غُصنُ زيتون ، شريفٌ عظيم وكأنّ العظمة خُلقَت لأمثاله ، يضبطُ نفسهُ عند الغضب يمسكُ لجام نفسه فلا تراهُ إلا مُبتسماً رقيقَ المشاعر بليغَ اللسان بارعَ الذهن يقرأ و يحفظُ ويتعلّم و يبني مَجدَ الوطن بريشته انّه محمود درويش.
سطور من مشاعل حياته :
محمود درويش هو الابن الثاني لعائلة تتكون من خمسة أبناء و ثلاث بنات ، ولد عام 1942في قرية البروة وفي عام 1948لجأ إلى لبنان وهو في السابعة من عمره وبقي هناك عام واحد سجينَ الضيق و الألم و حزن فراق وطنٍ يسري بينَ مداخل أوردتِه لم يستطع تحمل لهيب الغيرة على وطنه فعاد متسللا إلى فلسطين وبقي في قرية دير الأسد شمال بلدة مجد كروم في الجليل لفترة قصيرة استقرّ بعدها في قرية الجديدة شمال غرب قريته الأم البروة وأما تعليمه فقد تعلّم المرحلة الابتدائية متخفيّاً بعد عودته من لبنان في مدرسة دير الأسد فقد كان يخشى أن يتعرض للنفي من جديد إذا ما اكتشِفَ أمر تسلله وأما تعليمه الثانوي فتلقاه في قرية كفر ياسيف وبعد إنهائه المرحلة الثانوية انضم محمود درويش إلى الحزب الشيوعي و تحوّلت حياته إلى كاتب للشعر و المقالات في الجرائد مثل جريدة الاتحاد و مجلة الجديد والتي أصبح فيما بعد مشرفاً على تحريرها كما اشترك في تحرير جريدة الفجر ، تحدّى المارد الإسرائيلي بكلماته فأشعل الهمم و أثار النخوة الفقيدة استعذَبَ العذاب ليُنيرَ للعالم ضوءَ قنديلٍ اسمه فلسطين وبهذا لم يسلَم من مضايقات الصهيوني المُحتل حيث أقدم على اعتقاله أكثر من مرة منذ العام 1961مُتذَرّعاً بتهَمٍ تتعلّق بأقواله و كتاباتهِ ونشاطاته السياسية واستمر وضع اعتقال كلمة الحق حتى عام 1972حيثُ نزحَ إلى مصر وانتقل بعدها إلى لبنان ليعمل في مؤسسات النشر والدراسات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية وقد استقال محمود درويش من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير احتجاجاً على اتفاق أوسلو،شَغلَ منصب رئيس رابطة الكتاب الفلسطينيين و حرر في مجلة الكرمل وسكن في باريس قبل أن يدخل الوطن الأم فلسطين بتصريح لزيارة أمه وفي فترة وجوده هناك قدّم بعض أعضاء الكنيست الإسرائيلي العرب و اليهود اقتراحاً بالسماح له بالبقاء في الوطن وقد سُمحَ له بذلك.
جولة بين الحروف :
لزمت الحروف درب النضال و التحرير لترافق كلّ المحَن باختلاف مكانها و زمانها فكلّ المكان بينَ عينيه فلسطين و كلّ الزمان احتلال،شعرَ أنّ كلماته الغنائية و الإيقاعية هي اللوحة التي يرسمها ببؤسها و ضيقها بحزنها وفرحها بدمعة أم ثكلى وبسمة طفل يولدُ بين الجراح بطموح فلسطينيّ اتّخذ الحجرَ طريقَ الطموح و صنعَ في نهاية البندقية حُلمَ التحرير،رسمَ اللوحة الفلسطينية بكلّ الألوان الأحمر و الأسود،الأبيض و الأخضر لينقُلَ لكلّ بَشريٍّ مأساة فلسطينيٍّ جريح وفي النهاية أصبحت حروف اسم محمود درويش رمز الهوية الفلسطينية ومعاناتها على نحوٍ لم يبلغ إليه سوى ياسر عرفات وطريق الصعوبة طويل لينضم ثالث إليهما،رافق شاعرنا كل دروب فلسطين و محنها بصورة لم تتغير فالقتال كان و مازال مع إسرائيل حتى جاءت لحظة يصحو بها على أنين فلسطيني و صراخ آخر فلما سأل السبب قيلَ اقتتالٌ حمساويٌ فتحاوي فصرخَ في كلّ الوجوه:
(من الغيبوبة على علمٍ بلون واحد يسحقُ علماً بأربعة ألوان....على أسرى بلباس عسكري يسوقون أسرى عراة....فيا لنا من ضحايا في زيّ جلادين)
وأضاف : ( كم كذبنا حين قلنا نحن استثناء).
هذا هو محمود درويش علمٌ من نورٍ ونار حَصدَ بكلماته آلاف القلوب الطاهرة و أيقظ آلاف الضمائر من سباتها،حَصلَ على جوائز منها:جائزة لوتس عام 1969 وجائزة البحر المتوسط عام 1980وجائزة درع الثورة الفلسطينية عام 1981ولوحة أوروبا للشعر عام 1981وجائزة ابن سينا في الاتحاد السوفيتي عام 1982 وجائزة لينين عام 1983وغيرها من الجوائز العالمية وترك لنا عصافير بلا أجنحة و أوراق الزيتون وعاشق من فلسطين وآخر الليل ومطرٌ ناعم في خريف بعيد ويوميات جرح فلسطيني و حبيبتي تنهض من نومها وأحبك أو لا أحبك و ذاكرة للنسيان و غيرها من المؤلفات التي ستبقى رمز الفلسطيني و رقماً فوق هويته .
كلمات لا تُنسى من مشعلِ نورٍ أضاء صدرَ فلسطين و جبينَ الأمة العربية :
عن إنسان
وضعوا في فمه السلاسل....ربطوا يديه بصخرة الموتى...وقالوا أنتَ قاتل!
أخذوا طعامه والملابس والبيارق...ورموهُ في زنزانة الموتى...وقالوا: أنتَ سارق!
طردوه من كلّ المرافئ...أخذوا حبيبتَهُ الصغيرة....ثمّ قالوا: أنت لاجئ!!!
يا داميَ العينينِ والكفين!!...انّ الليل زائل..
لا غرفةُ التوقيف باقيةٌ
ولا زَردُ السلاسل!
نيرون مات ولم تمت روما
بعينيها تقاتل!!
وحبوب سنبلة تموت...
ستملأ الوادي سنابل!!!