المال هو قوام الحياة وعصب المجتمعات وأحد مصادر القوة في الأمم، ولا معنى للجهاد بالنفس إذا لم يتمكَّن المجاهد من المال الذي يشتري به سلاحه وآلات حربه وعتاده.
والمال في نفس الوقت شقيقُ الروح، وبذلُه شديدُ المشقة على كثيرٍ من النفوس؛ ولهذا قرن الله تعالى الجهاد بالمال مع الجهاد بالنفس في القرآن الكريم، بل قدَّم ذكر المال على ذكر النفس في معظم آيات الكتاب.
الجهاد بالمال تتفاوت درجته من وقت لآخر
ربما كان الجهاد بالمال في بعض الأوقات والأحوال أرفعَ درجةً من أوقات أخرى؛ فعند الشدة وضيق الحال- مثلما هو حاصل اليوم في فلسطين وغزة- يكون الإنفاق أعظمَ درجةً من الإنفاق في أوقات وأحوال أخرى، مثلما كان الإنفاق قبل فتح مكة في وقت حاجة الأمة وضرورتها أعظمَ من الإنفاق بعد الفتح والتمكين، كما في قوله تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (الحديد: من الآية 10).
وهو في حق المسلم غير القادر على مباشرة القتال بنفسه والذي لا يملك الذهاب إلى غزة وفلسطين أَوْلَى وأهمُّ أنواع الجهاد؛ فهو جهادنا هنا في مصر وفي سائر بلادنا العربية والإسلامية وجهاد كل مسلم في أنحاء المعمورة.
الجهاد بالمال في هذه الأيام من أعظم الأعمال
لمَّا كانت كتائبُ الجهاد اليوم في فلسطين وغزة تجتاز مرحلةً من أدق المراحل في تاريخ الأمة وأشدِّها عنفًا، ولمَّا كان أعداءُ الأمة يسعَوْن جاهدين إلى خنق الجهاد والمجاهدين اقتصاديًّا بوسائل كثيرة لا تخفى على العاقل ولا يُخطئها سمع وبصر اللبيب؛ من حصارٍ وتجويعٍ ومنعٍ من العمل ونَهْبٍ للأموال ومصادرةٍ لأرصدة من يُظَن به دعم المجاهدين وإتلافٍ للمزروعات، وهدمٍ متعمَّدٍ للبيوت والمصانع، وضغطٍ هائلٍ على الأنظمة والمؤسسات لتمتنع عن دعم المجاهدين، أو إمداد عوائلهم بمجرد القوت اللازم، ثم ما قامت به الصهيونية البربرية من مجزرةٍ آثمةٍ لم يسبق لها مثيل، في السبت الدامي؛ في ظل صمت عربي رسمي مُخْزٍ، بل في ظل تواطؤٍ فاجرٍ من بعض العرب والمسلمين.. لما كان الأمر كذلك فإن الجهاد بالمال اليوم أفضل بكثير من إنفاقه في سبيل الله في الأوقات العادية؛ فهل أنتم متاجرون مع الله يا أصحاب الأموال؟! وهل أنتم مستجيبون لنداء الله يا مسلمون؟!
هذا كتاب الله ينطق بيننا بالحق، مبيِّنًا فضيلةَ الإنفاق في سبيل الله ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)﴾ (البقرة).
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحُثُّ المسلمين على نصرة إخوانهم المجاهدين، مبينًا ما ينتظر المنفقين الأسخياء من أجر عظيم.. أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله نُودِي من أبواب الجنة: يا عبدَ الله.. هذا خيرٌ؛ فمن كان من أهل الصلاة دُعِيَ من باب الصلاة، ومَن كان من أهل الجهاد دُعِيَ من باب الجهاد، ومَن كان من أهل الصيام دُعِيَ من باب الرَّيَّان، ومن كان من أهل الصدقة دُعِيَ من باب الصدقة"، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي وأمي يا رسول الله! ما على مَنْ دُعِيَ من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدْعَى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ قال: "نعم.. وأرجو أن تكون منهم"، ومعنى زوجين: أي اثنين من أي صنف من أصناف المال، وبهذا فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه النسائي وصحَّحه ابن حبان والحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد مسلم ينفق من كل مالٍ له زوجين في سبيل الله إلا استقبلتْه حَجَبَةُ الجنة؛ كلهم يدعوه إلى ما عنده" قلت: وكيف ذلك؟ قال: "إن كانت إبلاً فبعيرين، وإن كانت بقرًا فبقرتين".
ولماذا يتأخر المسلم عن مدِّ يد العون للمجاهدين والنبي صلى الله عليه وسلم يتعهَّد له بأن ينال من الأجر مثلَ أجر المجاهد بنفسه؛ فقد أخرج البخاري وغيره عن زيد بن خالد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جهَّز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في سبيل الله بخير فقد غزا".
وأفضل الصدقة ما أُسند به الغزاة بما يُعينهم على الجهاد ويهوِّن عليهم مصاعبه.. أخرج الترمذي وصحَّحه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الصدقاتِ ظلُّ فسطاطٍ في سبيلِ الله، ومنيحةُ خادم في سبيل الله، أو طَرُوقة فَحْلٍ في سبيل الله"، والمراد بظل الفسطاط أن ينصب خباءً للغزاة في سبيل الله يستظلون فيه، ويشمل ذلك توفيرَ المأوى للمجاهدين، وإمدادَهم بالمال الذي يجهِّزون به قواعدَ حصينةً وأماكن مناسبةً ينطلقون منها، ويأوون إليها، وفي هذا تشجيعٌ لهم على مواصلة الجهاد في سبيل الله.
والمراد بخدمة خادم في سبيل الله: أن يُعطَى الغازي والمجاهدُ في سبيل الله خادمًا يخدمه، ويدخل في ذلك توفير كل ما يُسهم في تفرُّغ الغازي والمجاهد للجهاد في سبيل الله، وما يعفيه من الاشتغال بشئون نفسه وأهله؛ حتى يفرغ ذهنه وقلبه لمواصلة الجهاد في سبيل الله.
والمراد بطَرُوقة الفحل في سبيل الله: التبرُّع بناقة في أوان استعدادها لطرق الفحل؛ وذلك وقت كمال الانتفاع بها، ووقت تعاظم قيمتها عند أهلها، ووقت ارتفاع ثمنها عند أربابها، وفي مثل ذلك أخرج مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ بناقةٍ مخطومةٍ؛ فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة"، والناقة لا تُخطَم إلا إذا كانت كبيرة.
وفي ذلك ما فيه من الدعوة إلى السخاء والإنفاق على المجاهدين، وعدم الضنِّ عليهم بكرائم الأموال ونفائس المدَّخرات، خصوصًا ما كان منها أكثرَ نفعًا لهم، وأشدَّ بعثًا لهممهم، وأقوى رفعًا لعزائمهم وشدًّا لأَزْرهم.
وكيف يجود المجاهد بروحه لله ذودًا عن حياض الدين ودفاعًا عن حرمات المسلمين وإعلاءً لكلمة الله وحفاظًا على الأوطان، ثم يزوي الناسُ عنه كرائم الأموال، ويبخلون عليه بدراهم معدودات؟!
إذا كان أعداء الله وأعداء الأمة ينفقون أموالهم ليصدُّوا عن سبيل الله؛ فكيف تبخل أمة الخير والهدى والنور على مجاهديها بالمال اللازم لإعلاء كلمة الإسلام؟!
سهم لفلسطين
هذا اقتراح متواضع بأن يجعل كلٌّ منا فلسطين مثل ولد من أولاده؛ ينفق على الجهاد فيها مقدار ما ينفق على أحد أبنائه، ولن يحصل تغيُّرٌ كبيرٌ إذا أعادت الأسرة المسلمة توزيع دخلها وميزانيتها على أنها قد زادت فردًا بإذن الله؛ بل لعل هذا الفرد يكون سبب البركة في الجميع.
إعانة أسر المجاهدين والشهداء وبناء البيوت والمقرَّات المُدمَّرة
وذلك حتى يفرغ ذهن المجاهد وقلبه للجهاد، وحتى لا تنكشف ظهورُ المجاهدين، خصوصًا مع التضييق الذي تمارسه قوى التجبُّر على إخواننا المجاهدين، وعلى المؤسسات الرسمية التي تُعين أسرهم وتعول أيتامهم، ومع التخريب الكبير الذي تمارسه آلة الحرب الصهيونية لكل ما يقع تحت يدها من ديار المجاهدين ومزارعهم.
إن المسلم ليقشعرُّ بدنه وهو يسمع صوت أطفال الشهداء ويرى أحوالهم!، أية أمة تكون أمتنا إذا تركت أولئك الأطفال الذين خرج آباؤهم في سبيل عزة الأمة وحياتها؟!
احرص أيها الأخ الكريم على أن تعول أسرة شهيد أو أسير؛ فإن أعجزك أن تقوم بذلك وحدك فاستعن ببعض إخوانك، وليجتمع عددٌ من الصادقين في كفالة أسرة مسلمة غاب عنها عائلها في سبيل الله؛ فذلك من أعظم أبواب الجهاد.
مقاطعة البضائع والسلع الأمريكية والصهيونية
المقاطعة واجب شرعي
نعم.. إن هذه المقاطعة واجب شرعي، وهي من الموالاة والنصرة التي أمرنا الله بها مع المؤمنين، يقول العلامة الدكتور يوسف القرضاوي: مما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أن الجهاد لتحرير أرض الإسلام ممن يغزوها ويحتلها من أعداء الإسلام واجبٌ محتَّمٌ وفريضةٌ مقدسةٌ على أهل البلاد المغزُوَّة أولاًً ثم على المسلمين من حولهم إذا عجزوا عن مقاومتهم، حتى يشمل المسلمين كافة.
فكيف إذا كانت هذه الأرض الإسلامية المغزُوَّة هي القبلة الأولى للمسلمين وأرض الإسراء والمعراج وبلد المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله؟! وكيف إذا كان غزاتُها هم أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا؟! وكيف إذا كانت تساندها أقوى دول الأرض اليوم، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، كما يساندها اليهود في أنحاء العالم؟!
إن الجهاد اليوم لهؤلاء الذين اغتصبوا أرضنا المقدسة، وشرَّدوا أهلها من ديارهم، وسفكوا الدماء، وانتهكوا الحرمات، ودمَّروا البيوت، وأحرقوا المزارع، وعاثوا في الأرض فسادًا.. هذا الجهاد هو فريضة الفرائض، وأول الواجبات على الأمة المسلمة في المشرق والمغرب؛ فالمسلمون يسعى بذمَّتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم، وهم أمةٌ واحدةٌ؛ جمعتهم وحدة العقيدة ووحدة الشريعة ووحدة القبلة ووحدة الآلام والآمال كما قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ (الأنبياء: من الآية 92) ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية 10)، وفي الحديث الشريف: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله".
وها نحن نرى اليوم إخواننا وأبناءنا في غزة والقدس الشريف وفي أرض فلسطين المباركة؛ يبذلون الدماء بسخاء، ويقدِّمون الأرواح بأنفسٍ طيبةٍ، ولا يبالون بما أصابهم في سبيل الله؛ فعلينا نحن المسلمين في كل مكان أن نعاونهم بكل ما نستطيع من قوة﴿وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ﴾ (الأنفال: من الآية 72) ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية 2).