ربما هذه أول مرة يستطيع فيها المغرب أن يشعر بالفخر وهو يطالع مكانته بين الدول في دراسة يقدمها معهد دولي. فها هو معهد «كالوب» الأمريكي يصنف المغرب في المرتبة الثالثة لأكثر الدول تدينا عبر العالم. وحسب المعهد فحوالي 98 في المائة من المغاربة متدينون ويعتبرون الدين شيئا أساسيا في حياتهم اليومية.
لكن السؤال المحير الذي يطرحه المتأمل لهذه المرتبة الهامة التي يحتلها الدين في حياة المغاربة، هو ما مدى تأثير الدين في معاملات المغاربة اليومية. فالحديث النبوي الشريف يقول «الدين المعاملة»، ونحن المغاربة رغم ارتباطنا الشديد بالدين، يشوب معاملاتنا نقص مريع في التربية والتحضر.
ويكفي أن يأخذ الواحد منا سيارته وينزل إلى الشارع لكي يتأكد من أن خصالا من قبيل الإيثار والصبر والاحترام لا وجود لها في تعاملاتنا اليومية. مع العلم بأن هذه الخصال هي من صميم ديننا الإسلامي الحنيف.
إن استعمال الطريق ليوم واحد في المغرب يكشف لك بالملموس كل الأمراض الاجتماعية التي نعاني منها نحن المغاربة. القلق، التوتر، انعدام الإحساس بالآخر، الأنانية المفرطة، الرغبة في الانتقام من الآخر لمجرد أنه يملك سيارة أحسن منا، أو لمجرد أنه تجاوزنا في السرعة. أشياء بسيطة يرتكبها المغربي في الطريق تفضح عدم نضجه واستعداده للمخاطرة بحياته وحياة الآخرين استجابة لعقد نفسية مركبة.
وشخصيا أستغرب كيف أننا نحن المغاربة ثالث شعوب العالم تدينا، ومع ذلك نحتل رتبا مخجلة في إحصائيات البنك الدولي ومنظمة ترانسبرانسي كلما تعلق الأمر بالرشوة. مع أن ديننا يحرم علينا الرشوة ويلعن الراشي والمرتشي. وحسب آخر الإحصائيات فالرشوة في تقدم ملموس، وهي تنخر سنويا قطاعات كانت إلى حدود الأمس القريب محصنة منها. إلى درجة أنها أصبحت تهدد اقتصاد المغرب بنسبها المتزايدة التي تخيف المستثمرين الأجانب. وبسبب الرشوة أصبح سجن عكاشة «قشلة» حقيقية يجتمع فيها البوليس مع القوات المساعدة مع البحرية الملكية في قضايا المخدرات. وبسبها يقف اليوم رؤساء جماعات وممثلون للسكان وقياد أمام القضاء بعد تورطهم في البناء «الرشوائي».
الإسلام يحض على العمل بنص الحديث الشريف الذي يقول «العمل عبادة»، ومع ذلك لدينا واحد من أحد أكبر معدلات البطالة في العالم. الحديث النبوي يقول «من غشنا فليس منا»، ومع ذلك تحولنا إلى شعب من الغشاشين، نلبس ملابس مزورة ونستمع ونشاهد موسيقى وأفلاما مقرصنة، ونقتات على مواد غذائية مهربة. حتى برامجنا التعليمية والإعلامية العمومية ومشاريعنا السياسية وقوانيننا منقولة حرفيا عن الخارج.
وفي الأخير يأتي المندوب السامي للتخطيط لكي يقول لنا بأن المنتوج المحلي لا يستطيع منافسة المنتوج الأجنبي، ولذلك فعلينا دعم هذا المنتوج داخليا. وينسى أن السبب في عدم قدرة المنتوج المحلي على منافسة نظيره الأجنبي، هو أن منتوجنا مغشوش. ويمكن أن نكذب على الزبون مرة واحدة فقط، لأنه بمجرد ما سيكتشف غشنا «سيقلب» علينا إلى الأبد. وهذا للأسف ما يحدث في القطاع السياحي، خصوصا في المحلات التي يأخذون إليها الوفود السياحية لاقتناء التذكارات المغربية. فهذا يقنع السياح بأنه يملك سيف سيدنا علي، والآخر يقنعهم بأنه يملك «رزة» سيدنا موسى، وثالث يقنعهم بأنه يملك خاتم سيدنا سليمان بأسعار تنافسية. فهؤلاء السياح الأجانب في نظر كثيرين «غير نية مساكن» ويجوز «تجعيبهم» كما يقولون في مراكش، ولذلك لا يشعر هؤلاء التجار بالحرج من الكذب عليهم وبيعهم الأوهام باسم المغرب.
وما ينطبق على هؤلاء التجار ينطبق على بعض أصحاب الفنادق والمطاعم. إلى درجة أن السياح أصبحوا يفضلون النزول عند أبناء عمومتهم من النصارى الذين يستثمرون في المغرب أموالهم في بيوت الضيافة.
ولو كان المغاربة يثقون في إخوانهم المغاربة المتدينين بنسبة 98 في المائة، لما كانوا يفضلون أخذ أبنائهم إلى مدارس النصارى وعيادات الأطباء الأجانب. وكل من تسأله عن السبب سيقول لك أن هؤلاء النصارى «معقولين» ولا يعرفون الكذب. وليس مثل بعض أطبائنا الذين يحتالون على مرضاهم باختراع الأمراض من أجل استنزاف جيوبهم. أحد الأصدقاء قال لي متحسرا أن صاحب عيادة مشهورة في الرباط ذهب إليه بزوجته لتلد فاشترط عليه العملية القيصرية، مع أن زوجته تستطيع أن تلد بشكل طبيعي. وعندما بدأ يتفاوض معه على الثمن، اقترح عليه الطبيب أن يضيف إلى العملية القيصرية عملية «عقد القرون»، وأضاف الطبيب «غادي نحلها غادي نحلها، اللهم نضربو عصفورين بحجر». «واش دابا هادا طبيب ولا كزار» تساءل الصديق متحسرا.
وإذا قالوا أن المغرب هو بلد المتناقضات فهم غير مخطئين تماما. فالمغاربة ثالث شعوب العالم تدينا، مع أنهم يشربون أربعين مليون لتر من «الروج» سنويا. وبسبب ارتفاع الإقبال على الكحول عرف استيرادها سنة 2008 ارتفاعا وصل إلى أربعة في المائة مقارنة بالسنة التي قبلها. وبسبب هذا الارتفاع في «الشراب» زادت نسبة إدمان المغاربة للكحول وزادت نسبة حوادث السير القاتلة الناتجة عن السكر. وطبعا زادت عائدات مجموعة الحاج زنيبر في البنوك، وهي المجموعة التي تنتج أكثر من 85 في المائة من حاجيات سوق «الشاربان» بالمغرب. ولمن لا يعرف الحاج زنيبر جيدا فهو رجل متدين أيضا، ويقضي وقته بين معاصر خموره وغار يأوي إليه في خلواته لكي يتدبر ويتأمل أصل الوجود والكون. فيما تتكفل زوجته بمدرسة للأيتام تنفق عليها من عائدات الخمور التي يبيعها زوجها.
الدين يحض على الاستقامة والكرامة والعيش بعرق الجبين. وعندنا في المغرب أصبحت الاستقامة عملة نادرة والكرامة جريمة قد تؤدي بصاحبها إلى السجن والعيش بعرق الجبين حماقة يستحق صاحبها الشفقة والسخرية.
نحن ثالث شعوب العالم تدينا ومع ذلك تخجل نساؤنا من ذكر جنسيتهن كلما غادرن المغرب نحو بلد آخر. فبسب كل تلك الجالية المغربية المقيمة في الكازينوهات والخمارات ودور الدعارة عبر العالم، أصبحت المرأة المغربية متهمة في شرفها بغض النظر عن مستواها الفكري أو المهني. بسبب هذه «الشوهة العالمية» أصبحت بعض الدول، وآخرها موريتانيا، تشترط على طالبات التأشيرة المغربيات أن يكن متزوجات. بقي فقط أن يشترط بعضهم شهادة العزوبة.
وليس مستغربا أن تستنتج مصالح الأمن في الدار البيضاء أن نسبة كبيرة من الشقق المفروشة المعدة للدعارة بأرقى الأحياء بالعاصمة الاقتصادية هي في ملكية نساء يحترفن الدعارة بالخليج العربي. وبسبب «اللهطة» على المال، أصبحت بعض الأسر تقبل أن تعيش على عرق بناتها بدون إحساس الذنب. ويكفي أن يذهب الواحد إلى مطار محمد الخامس ويتفرج على منظر تلك الأسر وهي واقفة تنتظر بافتخار وصول سفيراتها فوق العادة بحقائبهن الدبلوماسية المليئة بالهدايا والدنانير.
لقد ماتت الكرامة في نفوس الكثيرين بيننا للأسف، وأصبح الإله الذي يعبده هؤلاء من دون الله هو الدينار والدولار والأورو وباقي العملات الصعبة في هذا الزمن المغربي الرخيص.
نحن ثالث الشعوب الأكثر تدينا في العالم، ومع ذلك أصبح يقصد بلدنا الباحثون عن السياحة الجنسية، ومغتصبو الأطفال والشواذ والمنحرفون جنسيا من كل جهات العالم. فالقانون متساهل عندنا مع هؤلاء المجرمين حرصا على سمعتنا السياحية، حتى ولو ذهبت سمعتنا الأخلاقية إلى الجحيم.
نحن ثالث شعوب العالم تدينا وأول الشعوب المصدرة للحشيش في العالم. وحسب إحصائيات علب «النيبرو» التي تبيعها «ألطاديس» فالمغاربة يدخنون سنويا أكثر من مليار «جوان».
إن السبب الحقيقي في انتشار كل هذه الأمراض والظواهر المشينة في بلدنا، هو ضعف الوازع الديني وانتشار النفاق والمظاهر الخارجية للتدين الزائف.
فالدين الإسلامي يحث على القراءة والعمل والإيثار وعدم الغش وتجنب أكل أموال الناس بالباطل والعدل وحب الأوطان. ونحن أصبحنا أبطال العالم في هجر الوطن ولو انتهى بنا المطاف طعاما في بطون الحيتان.
مأساتنا الحقيقية هي «قلة الدين». وليس بمظاهر التدين الزائفة والنفاق المستشري في تعاملاتنا سنتقدم. الدين الحقيقي، فضلا عن الشعائر المفروضة، هو معاملات بالأساس. وما دامت معاملاتنا يشوبها كل هذا الغش وهذا النفاق وهذا الكذب، فإننا سنبقى في مؤخرة الترتيب العالمي، حتى ولو وضعونا على رأس الدول الأكثر تدينا في العالم.
المصدر . عمود رشيد نيني - جريدة المساء -العدد الصادر يوم السبت/الاحد 21/22 فبراير2009