لو تسمعون ماذا تقول الدنيا عنا
ابن آدم مسكين لو خاف النار كما يخاف الفقر...دخل الجنة
وكانت أمنيتي أن تتمثل الدنيا أمامي حتى أصارحها فأقتلها
فأكون قد تخلصت منها وأخرجتها من قلبي.
وبينما كنت أجلس وحدي تمثلت الدنيا أمامي!!!
قالت الدنيا:
ماذا تريد ؟ ها أنا ذا أمامك.
قلت وأنا متأسف:
إنه ليحزنني أنني أحبك وأهواك، ولا أستطيع أن أتركك.
الدنيا:
نعم إنه لشعور طبيعي، ومن ادعى أنه لا يحبني فهو كاذب
فأنا من خلق الله تعالى،وأنا محبوبة إلى النفوس. قلت:
وكيف تقولين إن هذا شعور طبيعي؟
الدنيا:
نعم إنه لشعور طبيعي، ولكن الخطأ الذي يقع فيه أكثر الناس
أنهم يقدمون أمري على أمر الآخرة.
قلت:وهل أنا منهم؟!
الدنيا:
نعم، ولكن فيك صفات طيبة.
قلت:وكيف أعرف حقيقتك؟!
الدنيا: من قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
الدنيا حلوة خضرة
فقد وصفني النبي صلى الله عليه وسلم بأني خضرة
ولكني بالنسبة للمؤمن سجن له لقوله عليه السلام
الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
قلت: ولكني أعرف بعض المؤمنين يعيشون في نعيم ورفاهية!!
الدنيا:
ليس المراد بالسجن هو السجن الحديدي
الذي تفهمه وإنما هو التقييد بما أمر الله وما السجن إلا قيد
ولهذا قال محمد بن السماك –رحمه الله-
يا ابن آدم أنت في حبس منذ كنت،
أنت محبوس في الصلب ثم في البطن، ثم في القماط، ثم في المكتب
ثم تصير محبوساً في الكد على العيال، فاطلب لنفسك الراحة بعد الموت حتى لا تكون في الحبس أيضاً.
قلت:
الله إنه لمعنى أدبي جميل. لقد فهمت الآن، - ولكن ما سبب تسميتك بالدنيا؟؟
الدنيا:
لو علم الناس معني اسمي لما فتنتهم زينتي. إن اسمي له معنيان:
من الدنو: أي قريبة الزوال والانتهاء.
ومن الدناءة: أي القبح إذا ما قارنتني بالآخرة.
قلت:وكيف أتعامل معك حتى لا أفتن؟!
الدنيا:
إن هذا السؤال خطير تجعلني أبوح بسر من أسراري.
لأني أصطاد الناس أحياناً بالأموال وأحياناً بالنساء
وأحياناً بالمناصب وكذلك من زينتي، والزينة من صفاتها أنها مؤقتة
وهل رأيت يوماً زينة عرس دائمة؟ أو زينة عروس دائمة؟!
قلت: يا دنيا أجيبي عن سؤالي ولا تبتعدي، فكيف أتعامل معك ولا أفتن؟
الدنيا:
مهلاً، يا صاحبي فلا تتعجل عليّ.
-ثم قالت:
أهم صفة ينبغي أن تتوفر في الذي يتعامل معي هي: (اليقظة والفطانة). فأنا حاضرة الملذات
وحاضرة الشهوات فمن جعلني معبراً للآخرة فهو الناجي
ومن جعلني مستقراً فهو الخاسر فأنا دار بلاغ ولست بدار متاع وقد قال الحسن البصري – رحمه الله:
(إياكم وما شغل في الدنيا فإن الدنيا كثيرة الأشغال ولا يفتح رجل على
نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب). قلت:
إذن سوف أعتزلك تماماً حتى أنجو.
الدنيا:
ليس هذا الذي أردت. ولكن ينبغي أن تتعامل معي بحذر وكلما فتح لك
باب من الدنيا افتح أنت باباً للآخرة حتى لا تنسى نصيبك منها وتعيش
متزناً كما أمرك الله تعالى.
قلت:ولكن أخاف.
الدنيا:
لا تخف وافهم كيف تتعامل مع زينتي
ولا تكن كما قال ابن مسعود – رضي الله عنه؟
قلت:وماذا قال ابن مسعود – رضي الله عنه؟
الدنيا:
قال: (لا ألفين أحدكم جيفة ليل، قطرب نهار)
قلت:
وما معنى قطرب نهار؟
الدنيا:
أي: هي الدويبة التي تجلس هنا ساعة وهنا ساعة فلا تستريح
نهارها سعياً. وهكذا بعض الناس يتحرك في أمر دنياه ليل نهارولا يفكر
في أمر الآخرة
((فأبن آدم مسكين لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة).
قلت: وبماذا توصيني؟
الدنيا:
أوصيك بتذكر قول الله تعالى دائما.
((واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات
الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً)).
وإن كنت تحذرني مرة فاحذرني بعد اليوم ألف مرة.
قلت:لا أظن أنك ستفتنيني بعدما تصارحنا؟
الدنيا:
((قالوا للغراب مالك تسرق الصابون؟ قال: الأذى طبعي)).
وأنا أقول لك إن الفتنة طبعي، فأحذر أن تكون من عشاق الدنيا.
واحذر أن تكون جيفة ليل قطرب نهار.
ثم اختفت الدنيا فجأة.
فأخذت انادي...
يا دنيا .. يا دنيا... فلم يجبه أحد.
ثم طأت طأت رأسى وقلت:
الحمد لله الذي وفقني لفهم حقيقة الدنيا ثم أنشدت:
إذا كنت أعلم علماً يقيناً *** بأن جميع حياتي كسـاعة
فلم لا أكون ضنينـــاً بهـا *** وأجعلها في صلاح وطاعة
ومن يآمنكِ يا دنيا الدواهــــي *** تدوسين المصاحب في الترابِ
وأعجب من مُريدكِ وهــو يدري *** بأنك في الورى أم العجــــــابِ
ولو لا أن لي معنـاً جميـــــــــلاً *** لبعتُ المكث فيها بالذهــــــابِ