الابتكار المبدع صراع بين الوعي واللاوعي اللاوعي قوة لا محدودة قادرة على التغييرات اللانهائية، تتحدى مرور الزمن، وهي محصنة ضد أبعاد المكان الذي يعرفه الانسان وهو في وعيه، انه اللاشعور، العالم الغريب الذي تسقط فيه قوانين المادة والواقع المرتبط بالزمن والمكان البعدان المتلازمان يحتمية أحكام قوانين الدماغ الإنساني. اللاوعي الذي يشتمل على كل ما هو كامن من التجارب التي كونتها المسرات والآلام، انه المخزن الذي لا يحده مكان ولا زمان، المخزن لآلاف الآثار التي واكبت تطور الانسان الارتقائي من اللاانسانية الى الانسان الواعي، انه قوة خلاقة، وجوده متلازم مع وجود الانسان على الرغم من وجوده الواعي، انه كالطبيعة يخضع للقوانين المفروضة عليه، الكامنة فيه بما فيه من قوى دينامية متفجرة، متصادمة اولية مستمرة مع بقاء الانسان، اللاشعور عالم لا يعترف بقوانين عالم (الزمكان) غير مقيّد ولا مروض بكليته ابداً، انه يمثل الطبيعة بكل ماضيها واستمراريتها، بشكل انفرادي وتصاحب حركة اللاوعي، حالة محايثة للفكر الواقعي تحدث في ما (تحت الشعور) وهي صفة مميزة للعمليات العقلية الإيجابية التي تؤثر حين لا تكون في وقت قيامها من مركز النشاط الشعوري (انظر الموسوعة الفلسفية ص/ 427).
وهناك (المذهب المادي الآلي) ينكر فعالية اللاوعي في الابتكار المبدع، ويرجعها الى عمل (سيكوفيزيائي) في عملية (التداعي) التي تؤول الى تصورات (ترابطيَّة) اي (سببية)تتحرك في نطاق مادي آلي يردها الى ما يحدث في الجهاز العصبي من متغيرات.
يمثل هذا الاتجاه (ديفيد هيوم) وذلك انه لم يكتف بإعتبار الصور المبتكرة مجرد نسخ للانطباعات الاصلية على اعضاء الحس، وانما عدها نسخاً تبدو في وضع انفصال كما اعتبر (الخيال) قاصراً اذا ما قورن (بالحس الخالص) وهو قصور جعله يتجه اتجاهاً (توكيدياً) ينفي قدرة الانسان على ابتكار محسوسات جديدة، اما (هوبز) فقد افضت نزعته التجريبية الى ان يوحد بين (الخيال المبدع) والذاكرة وان يفسّر الخيال المبدع بأنه احساس متحلل ما يعني، ان الادراك يقوّم لنا المحسوسات واضحة وثابتة بينما يركب الخيال صوراً يسمها الغموض.
يعتقد اصحاب (الابتكار المبدع) ان الانسان الذي يقتصر في حياته على العقل ومنطقه الشكلي و المعرفة التي تعتمد الروتين لا يعدو كونه شخصاً يعتمد النظرة (الواحدية) اي ذات البعد الواحد للحياة والوجود.
اما الانسان الذي يقتصر في حياته على الطقوس اللاواعية المفروضة عليه والايمان المتعصب دونما معرفة و ادراك، فهو شخص غير مدرك لوجوده المنظور، اما الشخص (الفنان او الشاعر) فهو الذي يعتمد الترابط الديناميكي وبذلك الخضوع السلبي للاوعي يكون الخلق الفني والابتكار المبدع، الانسان الخلاّق الحقيقي حسب رأي (فرويد) في حوزته مواهب خاصة تعينه على المغامرة وراء نطاق رواق التحويل الى اسرار وتقنية العملية التي ترتطم به، من داخل عالم (الزمكان) الباطن المنبثق من لا وعيه ومن عالم (الوجود) الخارجي الذي يمثل الواقع. انه يعيش قريباً من احلامه وفي الوقت نفسه يحتضن (الروتين) قصد اختراقه للوصول الى (السحر) العملي الذي يغير الواقع على الدوام (انظر/ شنايدر/ التحليل النفسي والفن ص/111).
ان الموهبة الخاصة وتطور عملية (الابتكار) تنفردان بخاصية جوهرية تتمحور في القدرة المهيمنة على حركة (الادراك) النفسي واقتناص (منطقة) التحويل العظمى المنعكسة من الذهن الخلاّق بما فيها من (عمق) و (اتساع) وبما فيها من تكامل لا يتحلل يأتلف مع الاستعداد التعبيري. ان تلك (القدرة) تعرف في مجال التحليل النفسي للابتكار بإسم (رابطة) تجمع بين الاندفاع الابداعي و الهيمنة الخلاقة، وان هذا الادراك النفسي يصاحب الحرية الفردية التي يتمتع بها الانسان وبدونها لا يمكن ان ينمو او يتطور اي نوع من الادراك النفسي، وان تكون فيكون اقرب الى الادراك الهلوسي المريض لأن عزل الانسان عن المجتمع، تحطيم للقدرة الخلاقة عنده، ومن هذا التحطيم يكون موت الانسان (اجتماعياً) بدلاً من الموت البايولوجي المريح، وبالموت الاجتماعي يتحول ادراكه الواعي الى ادراك (اللاوعي) وثم الجنون الذي يفقد الانسان فيه حدود وجوده المكانية والزمانية و الاجتماعية (انظر جارلس ماج/ المجتمع فن العقل ص/118) وبعده يفقد وضوح الادراك العقلي ثم يفقد هويته وبعدها يقع من اعلى درجات (الاغتراب).
ان فعل (الابتكار) يكمن بين (الوعي واللاوعي)، اي يتكون ويتخلص من ضبابيته اثناء التفاعل غير المقيد بزمان او بمكان اي يتخلص من طبيعة الاحلام التي تضطرب فيها (الرؤية البصرية ورؤيا الذات) واثناء ذلك التفاعل تتحطم القوى المقيدة و (الساكنة) المكبوتة من (اللاوعي) تنطلق الطاقة الحرة، لتخلق الصور والقصائد المبتكرة والاعمال الفنية الاخرى الخالدة.
العمل المبتكر قبل كل شيء عمل صعب مرهق، وفي الوقت نفسه، انه عمل يوسع ويعمق الادراك عند الانسان، ويمتع الفنان والمتلقى عندما تصير الحقيقة جمالاً للاندفاع المبدع، والميزات المهمة في المبدع المبتكر هي الحدس الملهم والمعرفة والاندفاع والهيمنة الخلاقة، وعلى قدر امتلاك هذه المميزات تتوقف درجة الابداع والخلق، علماً ان الحدس ينضح باللاوعي، اذا كان الفنان ممتلكاً رؤيا الحدس فيكون مجبراً على تنفيذ (رؤياه) اي (الاستبصار) تلك الرؤية الضاغطة التي تدفع الشاعر والفنان ليصوغ ابداعاته ومآثره. ان الفن المبتكر تقف وراءه رؤيا الاحتمالات الجديدة، التي يفرزها التفسير الشكلي من اجل تعزيز سعادة الانسان عقلياً وجسدياً (انظر شنايدر (م. ص/120).
ان من يذهبون هذه الرؤيا يساقون الى تطويرها، كما انهم يمتلكون تقنية التحويل على نحو رفيع. القدرة على الابتكار موهبة باطنية تختص بها الحساسية الرؤيوية الضاغطة تسمح بتحويل (اللاوعي) و (الوعي) الى امكانات جديدة عظيمة يمتاز بها التفسير الشكلي بصورة جلية علمياً وفنياً.
ان حلقة الاتصال بين الاندفاع الابداعي (الابتكاري)، الذي يتمثل في (اللاوعي) والهيمنة الخلاقة التي تتمثل في (الوعي) تعبّر عن الالهام الحدسي والادراك المعرفي بالمشاركة.
ان الموهبة ليست مترادفة مع المعرفة التقنية التي تختص بفعاليات (العقل)، وهي لا يمكن ان تبتكر ابتكاراً حيث لا وجود لها، وعليه يجب ان نضعها موضعاً مغايراً تماماً لرد الفعل العصابي بتكوينه، كما ينبغي (للناقد) ان يفرق بين (خلق) المقصد الفني وبين الخلق الذي ينتهي الى نتيجة فنية حقيقية (شنايدر (م.ص/121).
اما اذا اضطرب التفاعل بين (اللاوعي والوعي) وفقد (الوعي) الهيمنة على صور (اللاوعي) فإن التقنية التحويلية التي تعود الى (المثل الاعلى الخلاّق) الذي يفسر الذات ويرقبها (تحترق) على نحو وهّاج، وتحمل ثقلاً باهظاً بحيث تفقد مرونتها، فلا يعود من بوسعها.
ان تشتمل على الاندفاع الابداعي اللا واعي وحدة الصراع في نطاق هيمنة (الانا) الخلاقة من حيث قدرتها على التحكم. قد يتغلب (اللاوعي) وتكون النتيجة غزواً لا مساومة فيه تقوم به الاحلام بشكلها التشكيلي ينال من الوعي حتى في حالة اليقظة والصحو وبالتالي تحدث الهلوسات والأوهام.
ولما يتصدر الاندماج الإبداعي على الصراعات (الاندماجية) الاخرى ويعمل ضمن التنظيم العقلي و العاطفي الامثل فإن مرونة (الكبت) ستعقب ذلك الامر، وسيبزل (اللاوعي) اكثر فأكثر.
ان الموهبة الفنية هي القدرة على (الاندماج) بما يعنيه ذلك من تضمينات متعددة، (فعلاً وكماً) اي انها تملك باطني، اما الشخص العصابي الذي يحاول ان يفرض نفسه لإمتلاكها فلا يسعه الا ان يسلب الاستقرار الضروري من تنظيمه العقلي والعاطفي، وتبعاً لذلك ان هذا الفنان او الشاعر يقع اسيراً لحالة مستمرة من الازمات الداخلية. ذلك ان الفن الحقيقي والاندماج الخلاق الذي يضمنه الاستعداد التنظيمي المسبق والمتأصل، والذي يتصدر كل الامور الاخرى يجعل من امكان الفنان الحقيقي، ان يقوم بدوره بسهولة نسبية بوعي وبلا وعي.
الفنان (يحلل ويركب) بطريقة الاندماج، او ما كان يسمى (بالانضواء) وبهذه الطريقة يستطيع ان يقتنص عدداً كبيراً من عوامل التكامل لعملية التحويل و (صياغة مخلوقات تشبهه) ومن هنا تبدو لنا عين الفنان على حقيقتها الثاقبة، ولذا فهو بحاجة لإقتناص الواقع بدقائع علاقاته المتبادلة، لئلا تصبح شخوصه نسخاً من ذاته، او نسخاً مقولبة وتظهر هذه الحالة بصورة واضحة في الفنون التشكيلية.
(التحويل) من وجهة النظر الاجتماعية والجمالية بالقياس الى الانسان هو التطور في كل عمل ابداعي انساني سواء أكان فنياً ام لم يكن لا يسع مؤرخ الفنون الهروب من مواجهة ذلك (التحويل). ان انتصار حياة الانسان بأسرها، يمكن ان يقاس بتحويل الناس من (الكم الى الكيف) من حيث الاستمرار والتفسير، طالما كان حقيقياً وسليماً- ذلك التحويل الذي يعبّر عن نفسه، من مختلف الطرائق المتسامية، لا في اعمال الفن والعلم والشعر حسب بل في كل فعاليات كوننا الاجتماعي الصغير، ان اي شكل من اشكال المجتمع الذي يناهض مثل هذه القدرة لدى الانسان على (التحول) التقدمي الخلاّق محكوم عليه بالدمار وبخلاف ذلك ليس بوسع الانسان التثبت بأسباب البقاء.