من المفاهيم الغامضة التي وضعها دلوز و غتاري مفهوم: ” فلسفة اليومي”، وهو مفهوم لا يتكرر بشكل كبير في أعمالهما، ولكنه مع ذلك يحتل مكانة بارزة لديهما. فقد كان دلوز و غتاري يطمحان إلى إنشاء ” فلسفة لليومي “21، ليس معنى ذلك أنهما كانا يطمحان إلى جعل كل الناس فلاسفة، وإنما كانا يريدان فقط من الفلسفة أن تنزل من تعاليها الميتافيزيقي، كي تصنع مقام محايثتها، ذاك الذي يؤهلها لأن تكون بحق علما للإنسان بما هو إنسان. ومن المعلوم أن الفلسفة ما هي إلا حركة الفلاسفة داخل مقام محايثة معين، الفلاسفة إذن هم المطالبون بالكف عن القيام بحركات تنقل عمودية وعن التمركز المتعالي حول الذات، واستبدال ذلك بحركة أفقية على صعيد المحايثة والانفتاح.
إن فلسفة اليومي لا تعني أكثر من هذا: المحايثة + الانفتاح. وهذا يناسب بشكل كبير وظيفتها التي كان دلوز و غتاري قد حدداها في إبداع المفاهيم، فالمفاهيم ليست أشياء بالغة التجريد كما يعتقد عادة، ذلك أن المفاهيم تحيل بالضرورة على أشياء واقعية وجد بسيطة، مما يجعلها قابلة للتعميم، ويجعل لها سوق تداول واسعة، دون أن تحتاج الفلسفة مع ذلك إلى السقوط في دواليب التواصل التي خطها هابرماس بعناية22، والتي تهدف خلق إجماع بدل خلق مفهوم، لا تحتاج الفلسفة إلى إجماع. ذلك أن فكرة الحوار الديمقراطي الغربي بين الأصدقاء، وإن كانت تشهد بالأصل اليوناني للفلسفة، فإنها مع ذلك لم تنتج أدنى مفهوم. لم يتخذ المفهوم موطنا على أرض الصراع الفلسفي، لقد كان بالأحرى مثل الطائر المتهكم الذي يناجي نفسه عابرا فوق ساحة صراع الآراء المتنافسة أكثر منه منخرطا فيها23.
أن يكون المفهوم قابلا للتعميم، ليس معناه أن يصير كل الناس فلاسفة، ليس معناه أن كل الناس قادرون على وضع المفاهيم، وإنما يعني فقط أن كل الناس قادرون على استقبال المفاهيم التي ينتجها الفلاسفة. وذلك ما يجعلهم منخرطين في حركة الفكر الفلسفي دون أن يحتاجوا إلى إجماع حول القضايا أو المفاهيم التي ينتجها هذا الفكر.
علينا أن نتوقف عن جعل التنظير مسألة مختصين24، علينا أن نمنح للناس شروط الإبداع، أن نمنحهم أفقا ومسارب للانفلات، من هنا فكرة ” التحليل اليومي” La pop –analyse25 التي جاء بها دلوز و غتاري ، والتي تهدف منح شروط الإبداع وصنع ترتيبات خاصة لكل شخص، بخلاف التحليل النفسي الذي يرى التنظير مسألة مقتصرة على “فرويد” و ما على الآخرين سوى أن يسلموا به و أن يخضعوا له.
تعيد فلسفة اليومي طرح إشكالية الآخر ضمن أفق أكثر انفتاحا، يَعتبر الآخر عالما ممكنا وأرضا قابلة للتعمير، وأفقا قابلا لممارسة الترحل. إن الفلسفة كأي شكل من أشكال الكتابة الجيدة لا يمكنها إلا أن تقحم الآخر ضمن صيرورات الكاتب نفسه، فأن نكتب معناه أن نصير أشياء أخرى، أن نصير امرأة، حيوانا، نباتا… فالكتابة هي كتابة من أجل الآخر: نكتب للأميين ، للمهمشين، للحيوانات، للطبيعة… ليس معنى هذا أننا نكتب كي تقرأنا الطبيعة أو تقرأنا الحيوانات…ولكن ذلك معناه أن نكتب بدل هؤلاء، أن نجعلهم يعبرون عن أنفسهم داخل سياق لا يملكون شروط الكتابة داخله. لم يكتب فوكو عن العاهرات والحمقى و المساجين كي يقرأه هؤلاء، وإنما فقط كتب عنهم لكي يصيروا هم أنفسهم مقروءين داخل سياق آخر…
إن فلسفة اليومي تفاعل مع الآخر، تكامل معه، فهي تأخذ منه صيرورات لا تمتلكها( صيرورة المتشرد، العاهرة، المسجون بالنسبة لفوكو)، وتعطيه بالمقابل أفقا للتعبير ومسربا للانفلات ( يصير المسجون مع فوكو ، قضية، تاريخا، واجهة، صوتا…)
و ليست فلسفة اليومي مجرد افتراض لا وجود له على أرض الواقع، فلقد مارس كل فيلسوف شعبيته على صعيد محايثته الخاص وبدرجات متفاوتة، ما دام جل الفلاسفة تقريبا يمتلكون مفاهيم خاصة بهم وموقعة من طرفهم، دون أن تشهد مع ذلك على ذاتية خالصة.
تهدف فلسفة اليومي أساسا تخليص المفهوم من ذاتيته الخالصة التي ألصقها به لاحقوا كانط من خلال سعيهم إلى إنشاء أنسكلوبديا شاملة للمفهوم. وبدل ذلك تحديد مهمة أكثر تواضعا للمفهوم، أي بداغوجيا للمفهوم تدرس شروط الإبداع كعوامل للحظات فريدة. فإذا كانت الحقب الثلاثة للمفهوم هي الأنسكلوبديا ( الموسوعية) والبداغوجيا ( التربية والتعليم) ثم التكوين المهني التجاري ( التسويق)، فإن الحقبة الثانية فقط من شأنها أن تحمينا من السقوط من قمم الحقبة الأولى إلى الكارثة المطلقة للحقبة الثالثة26