لقد كانت بداية تاريخ الادارسة بحادث معركة فخ التي وقعت في خلافة الهادي العباسي في سنة 169 /786 ، فقد أوقعت فيها قواته مذبحة بجماعة من العلويين من احفاد الحسن بن على بن ابي طالب ، وقد كان فيها ستة اخوة من ابناء عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب منهم ادريس منشئ الدولة الادريسية و سليمان الذى قتل في فخ و لحق حفيده سليمان بن محمد ابن سليمان بعمه ادريس في المغرب الاقصى ، فاقطعه ناحية تلمسان ، وعيسى الذي هاجر احفاده الى المغرب المتوسط واستقروا فيه وكان لهم شان بناحية ارشقول ، وكان من الناجين ايضا يحيى الذي فر الى بلاد الديلم جنوبي بحر قزوين وحاول اقامة دولة واستقدمه الرشيد الى بغداد على امان وهناك مات .
وهناك اخرون من نفس الفرع من ابناء عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عبد الله بن علي بن ابي طالب انتقلوا الى المغربين الاوسط و الاقصى ، وكان لهم شان فيه .
وهذا التزاحم من ال البيت على الهجرة الى هذه النواحي من ديار الاسلام يدل على ان الظروف التي كانت سائدة فيها كانت مهياة لقيام امامة سنية يكتب لها التوفيق . ويؤيد ذلك ، ان يحيى مثلا اخا ادريس هرب بالفعل الى بلاد الديلم واستطاع ان يقيم امامة علوية حسنية هناك ، ولكن الظروف لم تكن مواتية له ، ولهذا فقد قبل ان يقدم الى بغداد على امان من الرشيد . ولو كان امنا حيث كان لما التمس امانا شبه مستحيل في ظل منافس له خائف منه ، فضاع امره لان الظروف في الناحية التي لجا اليها لم تكن مؤاتية لقيام دولة علوية خارجة عن سلطان بني العباس .
و لهذا و لكي نعرف السبب في نجاح ادريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب في اقامة دولته في المغرب الاقصى ، وما كان لهذه الدولة من دور عظيم في تاريخ المغرب العام ، علينا ان ندرس الظروف التي كانت سائدة في القسم الشمالي من المغرب الاقصى قبيل وصول ادريس و قيام هذه الدولة .
وقد سبق ان دكرنا ان المغرب الاقصى ينقسم الى ثلاث مناطق ذات وحدة جغرافية يمكن ان تقوم فيها وحدات سياسية متماسكة :
الاولى هي منطقة الساحل الشمالي و الشمال الغربي المطلة على البحر الابيض المتوسط من ناحية و المحيط الاطلسي من ناحية اخرى ، و تشتمل ايضا منطقة الريف الجبلية و السهل الذي يقع الى جنوبها و يسمى بلاد الهبط او هبط صنهاجة و يجري فيه نهر لوكوس و جنوبه سهل ازغار ويشتمل حوض سبو وفروعه الكثيرة ويصل الى حوض نهر بورجرج او ابو الرقراق وتقع على مصبه مدينتا سلا و الرباط . وهذه المنطقة هي التي شملتها اول الامر ولاية طنجة الاسلامية ، وفيها ستقوم الدولة الادريسية ، وهي اول الدول الاسلامية الكبيرة التي قامت في المغرب الاقصى .
و يحد المغرب الاقصى من ناحية الشرق و يفصله عن المغرب الاوسط وادي المولوية الذي ينبع من جبال الاطلس في الجنوب ثم يسير شمالا بشرق حتى يصب في البحر الابيض ، و الى شرقه بقليل يمر خط الحدود بين المملكة المغربية و جمهورية الجزائر اليوم .
ومن الناحية الجغرلفية تقوم جبال الاطلس حاجزا بين المغربين الاوسط و الاقصى ، و هي في صعودها من الجنوب الغربي الى الشمال الشرقي تنحرف في مستوى فاس و صفرو الى الشرق و ترتفع الى الشمال و تنحرف شرقا و تسير محاذية لساحل البحر المتوسط تاركة ممرا واسعا يفصل بينهما و بين جبال الريف و التي قلنا انها امتداد لسلسلة الجبال الايبيرية في جنوب اسبانيا ، وهذا الممر هو ممر تازا ، وهو المدخل الرئيسي الى المغرب الاقصى من الشرق ، وله اهمية استراتيجية خاصة بالنسبة للمغرب الاقصى .
وقد قامت الحياة السياسية في المغرب الاقصى في العصور الاسلامية اولا في الشمال في منطقة طنجة و سبتة ثم جبال الريف التي تقع الى جنوبها كما قلنا ، و كان على عامل طنجة ان يبسط سلطانه على القبائل المغربية المصمودية القوية التي تعمر هذه المناطق الجبلية و اهمها غمارة ، و على السهول التي تقع جنوبي الجبال و تسمى بلاد الهبط ، ثم حوض نهر سبو و ريف تاسنا و تلك هي مواطن برغواطة و احلافها .
و نقف الان عند هذه المنطقة الشمالية التي ستقوم فيها الدولة الادريسية . و قد تحدثنا عن منطقة سبتة و طنجة و عن منطقة جبال الريف التي تقع الى جنوبها ، و نتحدث الان عن منطقة السهول التي تقع جنوبي هذه الجبال ، و هي بلاد الهبط و يليها جنوبا سهل ازغار ثم حوض نهر سبو الكثير الفروع ، و يسمى ساحلها الممتد من جنوبي العرائش الى مصب وادي ابي الرقراق او بورجراج بريف تاسنا و يسمى اليوم ببلاد الشاوية ( نسبة الى الشاة و الشاوية رعاتها ) وتمتد جنوبا بمحاذاة الساحل حتى انفا و هو الاسم القديم للدار البيضاء و مدينة اسفي التي تسمى ايضا سافي .
من ايام الفتح الى العصر الذي يعنينا الان ، و هو النصف الثاني من القران الثاني الهجري / الثامن الميلادي ، كانت تسكن هذه المنطقة قبائل مصمودية برانسية ، و اهمها غمارة في الشمال في منطقة طنجة و سبتة و جبال الريف و بلاد الهبط ، و تليها جنوبا في كل ريف تامسنا و معظم حوض سبو مجموعة قبائل مصمودية اخرى هي مجموعة برغواطية المصمودية كانت منازلها تمتد شمالا حتي اسفي الى جنوب منازل برغواطة تقوم منازل اوربة حول مدينة وليلي .
زندقة برغواطة :
هنا في بسائد ريف تامسنا و في مجموعة قبائل برغواطة ظهر في اعقاب الفتنة المغربية رجل من اتباع ميسرة المطغري الصفري يسمى طريف ابو صالح ، صارت له زعامة برغواطة فراسهم دهرا طويلا ، ثم خلفه في الرياسة ابنه صالح الذي بدا – له فيها تقول المراجع – ان يتنبأ بانشاء ديانة اقتبسها من الاسلام بعد تحريف عقيدته و عبادته و شريعته تحريفا شديدا ، وزعم انه نزل عليه قران من سور مثل سورة الديك و سورة الحمر و سورة الفيل و سورة ادم و سورة نوح و سورة هارون و ماروت و ما الى ذلك ، وجعل الصلوات خمسا بالنهار و خمسا بالليل وجعل الصيام في رجب بدلا من رمضان ، وقد اتانا بتفصيل هذه الديانة رسول من رئيس برغواطة وفد على الحكم المستنصر يسمى زمور بن صالح بن هاشم بن وراد ، كان قد ارسله شيخهم ايام الحكم المستنصر الاندلسي و هو ابو عيسى بن ابي الانصار سنة 352/963. وكان الحكم قد طلب منه على عادته ان يكتب له تقريرا عن ديانة برغواطة هذه فكتبه ، وورد الينا نصه عند ابن عذارى و ابن خلدون ، واننا لنتساءل كيف وافق الحكم بعد ان عرف هذه المعلومات عن تلك الديانة على استمرار الحلف بين برغواطة و خلافة قرطبة ؟ مع ما نعرف من تمسك الحكم المستنصر بالنسبة و حرصه على الذياد عنها و معاداة كل من انحرف عنها ، قد يكون التقرير الذي لدينا قد حرف تحريفا شديدا مقصودا لتشويه صورة مذهب برغواطة لزيادة مخاوف الناس منها و دفعهم الى حربها و القضاء على ديانتها وزعامتها ايضا ( وهذا هو الذي حدث فعلا ) ، على اية حال فان معظم كتب التاريخ التي لدينا بعد القرن الثالث الهجري كتب تواريخ رسمية او سنة رسمية مؤلفوها كانوا يعملون في خدمة الدول او يستفيدون منها ، ومن ثم فكل خارج على هذه الدول يوصف بانه شرير او مفسد او خارج على الملة مع ان العكس قد يكون هو الصحيح .
وكانت من جانب شيوخ السنة من الاسلحة القوية التي مكنت لمذهب السنة من الانتصار على اعدائه و المحافظة على سيادته في عالم الاسلام.
وقد ظل صالح بن طريف هذا رغم زندقته و انحرافه رئيسا مطاعا في قومه ، يسير على طريق الصلاح كما تصوره وصوره لقومه ، فانه رغم مروقه ظل يتمسك بخيط رفيع من الاسلام فزعم انه صالح المؤمنين الذي ورد ذكره في القران ، و قد كان يحكم في سنة 135/752 ويقال انه راس قومه خمسين سنة .
ومما يؤيدنا في استبعاد الكثير مما يدعى على صالح بن طريف اننا نرى هذا الزعيم القبلي المارق بحسب ما تقول المصادر يترك الرياسة لابنه الياس ويرحل هو الى المشرق في رحلة غامضة وقال انه سيعود في صورة المهدي المنتظر الذي يملا الدنيا عدلا بعد ان تملا جورا و الغالب انه خرج للحج او اختفى بطريقة ما واشاع ابنه وخليفته الياس هذه الشائعة لكي يتولى الحكم و يسيطر على عقول اتباعه و قلوبهم . المهم ان الياس طالت رياسته حتى بلغت 50 سنة فيما يقال ثم كان بعده ابنه يونس وقد حكم 40 سنة .
ويحكي ابن عذارى وصاحب روض القرطاس واشباههما من المؤرخين المتاخرين اخبارا غريبة عن كفر يونس بن الياس بن صالح و البرغواطيين بصفة عامة ، ولكن الغالب ان اهل السنة اجتهدوا في تشويه صورة طريف واولاده و المبالغة في تصوير خروجهم على الاسلام لكي ينفروا الناس منه ومن حركته ،ويبعثوا في نفوسهم الحماس لمحاربتهم ، و المؤكد ان البرغواطيين كانوا يقراون القران بالبربرية ، وهذا لايجوز في نظر اهل الفقه ، لان الصلاة بالايات المترجمة لا تصح .فكان اتباعه يقولون مثلا مقر باكش بدلا من الله اكبر و اسمن باكش بدل باسم الله و هي عبارات غريبة عن الاسلام و اهله .
وما زال يونس يبتكر ويزيد حتى ابتعد عن الاسلام بعدا شاسعا ، فاخترع لاتباعه صلاة وصياما يختلفان عن صلاة المسلمين وصيامهم ، وتزوج فادخل في الزواج و الطلاق و علاقات الناس بعضهم ببعض كثيرا من تقاليد قومه وعاداتهم ، حتى اصبحت عقيدتهم شيئا بعيدا عن الاسلام ، و هنا نجد اهل السنة و الحريصين على الاسلام يرمون هذه النحلة البرغواطية عن قوس واحدة ، ويعلنون الحرب عليها على انها كفر لا بد من محاربته و القضاء عليه .
المهم انه ذاع في الاذهان في المغرب كله ان برغواطة كفار ملاحدة ، وكان اكبر من روج هذه الشائعة قبائل البرانس المستقرين التي تسكن الوديان في غربي الجزائر الحالية و ممر تازا ، واهمها اوربة و مجموعة قبائل دكالة و غمارة
، وهذه الاخيرة معدودة ضمن القبائل المصمودية ، وكانت دكالة تسكن الساحل في حين ان غمارة كانت تسكن جبال الريف واقليم الهبط ووادي سبو ، وتمتد الى السفوح الغربية لجبال الاطلس مجاورة لقبيلة اوربة قبيلة كسيلة الذي عرفناه .
هذه القبائل البرنسية أي المستقرة ومعظمها مصمودية هي التي خافت زندقة برغواطة وتحملت مظالمها و لكن رجالها كانوا في حاجة الى زعيم يجمعهم الى لواء واحد و يخلصهم من سلطان برغواطة .
كانت الظروف ادن ممهدة لزعامة سياية في شمال المغرب الاقصى . زعامة تمكن القبائل الصنهاجية المصمودية المتمسكة بالسنة هناك و من الخلاص من سلطان برغواطة اولا ثم تمكن لها هي الاخرى من انشاء دولة و كيان سياسي على اسس الاسلام القويم
المصدر : د.حسين مؤنس / تاريخ المغرب و حضارته / المجلد الأول