تحتاج المفاهيم كما هو معلوم إلى شخصيات مفهومية تحملها وإلى مقام محايثة تحقق توطنها عليه. يشكل الصديق تلك الشخصية المفهومية التي نذهب معها إلى حد القول بأن الرغبة تشهد على أصل نشوء الفلسفة، فإذا كانت الحضارات الأخرى تتوفر على حكماء، فإن مجتمع الإغريق يتفرد بخاصية اشتماله على هؤلاء ” الأصدقاء “1. سيكون الإغريق إذن هم الذين أعلنوا موت الحكيم ( على النمط الشرقي)، واستعاضوا عنه بالفلاسفة، أصدقاء الحكمة، أولئك الذين ينزعون إلى الفلسفة ويرغبون فيها دون أن يمتلكوها2.
وبذلك يكون الإغريق قد أعادوا توطين حركة الفكر ضمن مقام محايثة خلصها من سلطة المتعالي لتصير تنقلا أفقيا تنجزه شخصيات “الأغورا” فيما بينها، بعد ما كانت تنقلا عموديا ينجزه العارف أو الكاهن ما بين السماء (المتعالي) والأرض (المحايث).
يشهد الاشتقاق اللغوي لكلمة فلسفة نفسه على هذه الرغبة اللا متناهية المنجزة بين حركة الذات، وحركة الفكر: < < أن أتكلم متفلسفاً أو أسمع فيلسوفا يتكلم تلك متعة ما بعدها متعة >>3، أليست الفلسفة في اشتقاقها اللغوي : فيلو- صوفيا، حبا / رغبة في الحكمة؟
للإجابة عن السؤال القائل: هل يمكن؟ أو هل يجب اعتبار الفلسفة إغريقية؟ يصر دلوز و غتاري على ربط نشوء الفلسفة بنشوء مفهوم الصداقة داخل المجتمع اليوناني. إن الصديق كما صاغته الثقافة اليونانية ليس شخصا غريبا، ليس ظرفا أو مثالا تجريبيا، وإنما يشكل حضورا داخل الفكر، شرطا لإمكانية الفكر نفسه ومقولة حية. لقد دفع الإغريق بالصديق من خلال الفلسفة إلى تجاوز العلاقة مع الآخر نحو علاقة مع كلية وموضوعية ومع ماهية4. فليس الصديقان هما اللذان يمارسان فعل التفكير، وإنما الفكر نفسه هو الذي يتطلب من المفكر أن يكون صديقا لكي يصير باستطاعته أن يتحقق في ذاته5 .
لكن إذا كان الفيلسوف صديقا للحكمة أو عاشقا لها، أليس ذلك راجعا لكونه يرغب فيها؟ ألا يكون الفيلسوف كذلك هو الراغب، والفلسفة موضوع رغبة، و التفلسف فعل رغبة؟6
إن تعلق الفلسفة بالرغبة، هي السمة التي تجعل من الفلسفة موضوعا إغريقيا يتواءم وإسهام المدن اليونانية. فبقدر ما حققت المدن اليونانية شروط الصداقة، بقدر ما حققت شروط الرغبة المتمثلة في تشكيلها مجتمعات أصدقاء أو أناس متساوين تجمعهم علاقات صراع وتنافس، تقيم تقابلا بين الراغبين في شتى المجالات: الحب، الحكمة، السياسة، مجالس القضاء، الرياضة…7
لم تكن أثينا في الواقع منشأ لكل الفلاسفة، فكل من آسيا وإيطاليا وكذلك إفريقيا تمثل المراحل الأوديسية للمسار الرابط بين الفلسفة و الفلاسفة.8 لكن كون الفلاسفة كانوا أجانب لا يلغي شيئا من كون الفلسفة كانت إغريقية، ذلك أن أثينا هي وحدها التي منحت لهؤلاء الفلاسفة مقام محايثة صالحا للسكنى فلسفيا. ماذا وجد هؤلاء الأجانب في الوسط الإغريقي؟ هناك على الأقل ثلاثة أشياء: 9
أولا: طابع اجتماعي خالص، تسوده المحايثة ويتعارض مع السيادة التي تفرضها الإمبراطورية. ثانيا : نوع من المتعة التي يمنحها فعل الانضمام إلى الآخرين في إطار عقد الصداقة، ولكن أيضا متعة تمنحها إمكانية فسخ هذا العقد.
ثالثا: متعة خاصة يمنحا تذوق الرأي في إطار تبادل الآراء والحوار.
هكذا يعيد دلوز و غتاري الدفاع عن أصلية الفلسفة في اليونان من خلال ارتكازه على الخصائص الثلاث التي تفرد بها المجتمع الأثيني، وهي المحايثة والصداقة والرأي10. الرأي كموضوع للرغبة، والأصدقاء كراغبين ثم المحايثة كوسط يكفل الرغبة.
وعلى الرغم من أن رأي الفيلسوفين لا يخفي التمركز الذي ما انفك الغرب يمارسه حول ذاته، معتبرا أن المجتمع الغربي هو صاحب السبق، بل الوحيد ربما الذي استطاع أن يمارس فعل التفكير من خلال المعجزة اليونانية. فإن أطروحة دلوز و غتاري مع ذلك تبقى أكثر قابلية للاستساغة، من جهة أنهما يقران بأن ظهور الفلسفة في اليونان جاء نتيجة احتمال بدل ضرورة، نتيجة بيئة أو وسط بدل أصل، نتيجة صيرورة أكثر من تاريخ، نتيجة جغرافيا بدل تاريخ مرحلي، و نتيجة رعاية بدلا من طبيعة 11