من المعلوم أن الصديق أو العاشق كراغب لا وجود له في منأى عن أنداد منافسين. كل من يدعي صداقة أو عشق شيء ما، هو مضطر إلى تبرير عشقه بالقياس إلى مرجع منافس < < أنا أحبكِ أكثر منه...، أنا أكثر من تستطيع الوثوق به من بين الأصدقاء...>> . فإذا كان النجار يدعي صداقة الخشب فإنه مضطر للدفاع عن شدة صداقته للخشب، بالقياس إلى الحطاب وحارس الغابة، وصانع الخشب 12 .
وإذا ما تعلق الأمر بحب الحكمة فإن الفلسفة قد واجهت في بدايتها العديد من المنافسين، كل واحد يدعي لنفسه حب الحكمة، أو الفكر الصائب. بلغت المنافسة أشدها حين تنازع الفيلسوف والسفسطائي بقايا الحكيم القديم 13 . لقد أقام أفلاطون عبر أعماله مسرحا متكاملا يهدف تعيين هذا الصراع.
و لقد أنتجت الفلسفة تاريخا بكامله من خلال علاقات صراع مع ميادين أخرى. تجلى هذا الصراع بوثيرة أكبر في العصور الأخيرة، حين التقت الفلسفة بمنافسين جدد تمثلوا بداية في علوم الإنسان، وعلى الأخص في السوسيولوجيا التي أرادت أن تحل محلها 14 . ثم جاء دور الإبستمولجيا واللسانيات، بل حتى التحليل النفسي، وهكذا صارت الفلسفة تواجه منافسين وقحين أكثر فأكثر15 ، كلهم يرومون هدفا واحدا: سلب الفلسفة وظيفتها بما هي إبداع للمفاهيم. ثم بلغ العار منتهاه حين استولت علوم المعلوميات، والتسويق، وفن التصميم والدعاية على لفظ المفهوم نفسه، وصارت تقول : هذه مهمتنا، نحن خالقو المفهوم، نحن منتجوه 16 . فلم يعد المفهوم يعني أكثر من الصورة الوهمية،أو إيهام علبة المكرونة، وصار المقدم،العارض للمنتوج، هو الفيلسوف أو المفهومي أو الفنان 17. ثم جاءت الكارثة الكبرى حين تخلت الفلسفة نفسها عن وظيفتها الأساسية: إبداع المفاهيم، لترتمي في أحضان ميادين أخرى لا تصلح للسكنى فلسفياً. فصارت الفلسفة تأملا وتفكيرا و أخيرا تواصلا18.**
لكن، مع ذلك، فإن خطابا يبشر بموت الفلسفة لا يمكن إلا أن يبعث على الضحك. فكلما صادفت الفلسفة منافسين متهورين وأغبياء، كلما التقت بهم داخل حدودها، كلما نشطت لأداء مهمتها: خلق المفاهيم التي هي نيازك أكثر منها سلعا. لا يمكن بأي حال أن تموت الفلسفة، فكلما حدث أن كان هناك إبداع للمفاهيم فستسمى عملية الإبداع تلك فلسفة. وإن حدث – افتراضا- وماتت الفلسفة فسيكون من الضحك 19 .
ما دام هناك إبداع مفاهيم، أو على الأقل رغبة في إبداع المفاهيم، فستكون هناك فلسفة. لكن من يضمن استمرار إبداع المفاهيم؟ ومن يستطيع تمييز المفاهيم الصحيحة من الزائفة ساعة طرحها؟
لا يمكن للفلسفة أن تبدع مفاهيمها إلا داخل مقام محايثة صالح للتعمير الفلسفي، ووحدهم الأصدقاء يستطيعون ابتكار مقام للمحايثة كأرضية تنفلت من [ رقابة الأصنام]20. وحدهم باستطاعتهم منح المفهوم شروط التوطن و الترحل المستمرين. لكن مفهوم الصداقة تغير كثيرا، بحيث من الصعب تخيل مفهوم معاصر للصداقة يطابق ذاك الذي كانت تنتجه الأغورا. لهذا السبب يطرح دلوز و غتاري مفهوما جديدا هو مفهوم العشيرة، وحدها العشيرة تمنحنا شروط تنظيم جديد وتحمينا من لعنة الفوضى، علينا أن ننفلت من سلطة الأنظمة الفاشية: الدولة، الأسرة،… لكي نلتحق بالعشيرة، تلك التي تمنحنا شروطا جديدة للفكر والإبداع، علاقة جديدة بالرغبة، حيث تنمحي الذات كي تحقق كمالها ضمن تنوع الأغيار.
إن وجود الرغبة هو الضامن الأكيد لاستمرار الفلسفة. فالرغبة هي ما يمنحنا شروط معاكسة النظام،وهي الدافع الذي يحركنا كي ننتج المفاهيم ونشهرها سلاحا في وجه “الدوكسا”، ثم إن الرغبة هي ما يخط أفق ترحيلاتنا ما بين الفلسفة وغيرها من مجالات الإبداع، تماما كما كان يحدث مع دلوز.