حين أسلم الأمازيغي
بعدما يعرض الكتاب للمواقف التي يعتبرها خادمة للقضية الأمازيغية ويصنفها إلى صنفين: الموقف الواقعي والموقف العلمي، يطرح ما يسميه "الموقف البديل" الذي يعتبر في العمق امتدادا للموقف العلمي الواقعي.
ومن المرتكزات التي يعلن عنها المؤلف لهذا الموقف، الشمولية في النظر لمكونات الهوية، ثم الموضوعية التي تقتضي منا أن لا نتجاوز الكائن الأمازيغي نحو ما هو نخبوي.
وهكذا تبدو المهمة المعرفية الأولى كما نستنبطها من انشغالات هذه الرؤية، عدم السقوط في فخاخ الخطاب الاستشراقي "لأن العودة إلى التاريخ ما قبل الإسلامي للأمازيغ ينبني على الاحتمال أو الأسطورة، أو أنه مؤرخ من لدن المستشرقين الذين طوعوه ليساير مكونات هويتهم الأوروبية.
من ذلك قولهم إن الأمازيغ كانوا يهودا أو مسيحيين وإن الخط الأمازيغي يشبه الخط اللاتيني، بل والإنسان الأمازيغي يحتمل أن يكون من أصول أوروبية، إلى درجة أنه يحلو للكثير من المنبهرين بالطروح الغربية ذات الأبعاد الاستعمارية والاحتوائية أن يتباهوا بالقرابة للجنس الأبيض والعداوة للجنس الأسمر/العربي المسلم، وهم لا يدرون أن الغرب إنما يضع الكل في سلة واحدة.
فالعربي أو الأفريقي أو المسلم أو الأمازيغي أو غيرهم من الجنوبيين، كلهم من طينة واحدة ومن درجة سفلى.
وفي المقابل فإن تاريخ الأمازيغ "الحقيقي" يتحدد بالدرجة الأولى -حسب رؤية المؤلف- عبر تاريخ الأخلاق النموذجية التي وسمت الشخصية الأمازيغية، هذه الأخلاق سيستثمرها الإسلام فتثمر أكثر، فيكون لهذا الإنسان الذي ظل طوال الأزمان منعزلا عن العالم شأن كبير في خدمة هذا الدين ونشره.
ولعله لو لم يفتح المسلمون بلاد المغرب لاتخذ التاريخ مجرى آخر أكثر اختلافا ومغايرة، أو ظل الأمازيغ تحت إمرة الآخرين كما كانوا طوال تاريخهم القديم، أو انصهروا في بوتقة ما هو أوروبي، أو حدث غير ذلك.
فتح بالقيم لا بالسيف
ينظر المؤلف إلى القاموس المتداول حول قضية الفتح الإسلامي ليقرر أن "البربر استجابوا بشكل تلقائي للإسلام"، وأن "الإسلام جاء لينتصر لا بالسيف الذي وظف سياسيا وأيدولوجيا لخدمة مختلف البلاطات التي تعاقبت على احتكار الدين الإسلامي، وإنما بالقيم التي سوف تستمر رغم اندثار تلك البلاطات وتلاشيها، مما يفند أن يكون الإسلام مجرد غزو مادي أو استعمار سياسي.
وإلا فكيف يمكن تفسير تشبث الأمازيغ بالإسلام عبر مراحل تقلدهم سدة الحكم، واستقلالهم الكلي عن دار الخلافة في المشرق، حيث كان باستطاعتهم الردة عن الإسلام والرجوع إلى معتقداتهم الجاهلية؟ ثم كيف يمكن استيعاب استمرار تمسكهم بهذا الدين في الوقت الحاضر وهم يملكون الحرية التامة في اختيار طريق أخرى؟
وهكذا يخلص المؤلف إلى النتيجة التالية: "ألا يعني هذا كله أن الفتح الإسلامي إنما هو فتح بالقيم التي استقرت في النفوس ليس تحت بصيص السيوف، وإنما تحت رحمة الحقيقة الإسلامية المطلقة التي زرعت في القلوب الطمأنينة والأمل؟".
" الإسلام جاء لينتصر لا بالسيف الذي وظف سياسيا وأيدولوجيا لخدمة مختلف البلاطات التي تعاقبت على احتكار الدين الإسلامي، وإنما بالقيم التي ستستمر رغم اندثار تلك البلاطات وتلاشيها، مما يفند أن يكون الإسلام مجرد غزو مادي أو استعمار سياسي " |
مراجعات جوهرية
إن محاربة البربر للإسلام في بداية انتشاره بأرض المغرب -كما يقدمها الطرح الاستشراقي وأيضا التغريبي- أمر جد عادي كما يقول المؤلف، فلا يعني هذا أنهم حاربوا الإسلام على أساس عدائي، وإنما حاربوه من باب الدفاع عن بلادهم والذود عن هويتهم الأمازيغية.كما أن الموقف الدفاعي العنيف الذي اتخذه الأمازيغ من الفاتحين المسلمين الأوائل، لا يعادل ولو ذرة واحدة مما فعله مشركو قريش بالرسول صلى الله عليه وسلم، رغم الأواصر الدموية والعشائرية القوية التي كانت توفق بينهم.
من جهة أخرى فإن "الإسلام لا يمكن أن يوضع في نفس السلة التي يوضع فيها غيره من المستعمرين، كالبيزنطيين والوندال والرومان وغيرهم، فهؤلاء جاؤوا بنية تحقيق ما هو مادي بالدرجة الأولى، عبر الاستيلاء على السواحل والأراضي الزراعية واسترقاق الناس ونحو ذلك، أما الإسلام فجاء بنية تحقيق ما هو معنوي بالدرجة الأولى، وهو نشر رسالته السماوية والدعوة إليها.
والأهم أن الإسلام جاء ليحرر الإنسان من استعباد أخيه الإنسان له، فتحرر بذلك البربر من سطوة الغزاة الشماليين وأصبحوا سادة أنفسهم وسادة العالم الذين بددوا بنور الإسلام ظلمات كانت ترين على أوروبا وجزء لا يستهان به من أفريقيا".
لقد صار الإسلام دين الأمازيغ بشكل سريع لأنه جاء ليملأ ذلك الفراغ الروحي الذي لم يتمكن أي دين آخر من ملئه بشكل سليم. ثم إن تلك الأخلاق والمعاملات التي حث الإسلام على التحلي بها كانت حاضرة بشكل لافت في الشخصية الأمازيغية التي وجدت في العقيدة السمحة سندا روحيا يخلصها من حيرتها الوجودية.
وماديا يحررها من أسر الشعوب الأوروبية التي كانت تنظر إلى سكان شمال أفريقيا نظرة دونية مبنية على الاحتقار والازدراء.
كما أن الإسلام لم يأت بهدف تعميم العربية وإنما بهدف نشر العقيدة الإسلامية، ومع أن العربية آلية لنشر محتوى الإسلام أو وعاء لنقل أفكار الإسلام إلى الآخر، فإن تعميمها بين الشعوب التي وصلت إليها الدعوة الإسلامية كان أمرا طبيعيا.
كما لا ينبغي ربط إقصاء الأقليات بالإسلام لأنه الدين الوحيد الذي نصر الأقليات و"احترم الخصوصيات الثقافية للشعوب"، إذ "من جملة ما اتسم به هذا الدين أنه أثناء فتوحه راعى الآخر ولم يقبل على تهديم ما شيده، ولا إحراق ما ألفه، ولا إلغاء ما سنه، كما فعل الكثير من المستعمرين.
وفي العمق فإن الإسلام -كما يقرر المؤلف- لم يأت ليفضل جنسا عن آخر، أو ليرفع من شأن إنسان دون آخر، بل جاء ليجعل الناس سواسية لا يتعالى الشخص بعربيته ولا بأمازيغيته ولا بغيرهما، وإنما بتقواه.
لم ينس المؤلف في هذا السياق الحديث عن الإسهام الأمازيغي في الإسلام، وقسمه إلى قسمين: سياسي وثقافي، فأبرز الدور الفعال الذي لعبه الأمازيغ خاصة والمغاربة عامة في توسيع قاعدة الإسلام، سواء في شمال أفريقيا أو في غربها أو في جنوب أوروبا، وأيضا ما تميزوا به من عطاء علمي وفكري.
" صار الإسلام دين الأمازيغ بشكل سريع، لأنه جاء ليملأ ذلك الفراغ الروحي الذي لم يتمكن أي دين آخر من ملئه بشكل سليم " |
الثالوث المنشود